الهجرة والنصرة للنبي محمد
صلى الله عليه و سلم/الجزء الاول
الحمد لله الغالب على أمره و الناصر لعبده صلى الله عليه و سلم و من تبعه إلى يوم الدين حمداً لا يحصيه و لا يحيطه إلا علمه سبحانه وتعالى الحمد لله الذي جعل الهجرة فتحا ونصرا ونقطة بداية لتكوين نواة الدولة الإسلامية ونشر الدعوة المحمدية وإرغاما لمن جحد وكفر –إبليس و حزبه- من شياطين الإنس والجن الذين مكروا مكرا كبارا وعتوا في الأرض عتوا كبيرا لوأد الدعوة وقتل الدعاة أما بعد :
تهجرنا السنون وترحل عنا وتبزغ علينا سنون ونحن لا ندري أن ذلك يمضي من عمرنا ويقطع سيف الوقت ما شاء من أجسادنا العضو تلو العضو و تر سم على جباهنا الأيام وتوهن العظم ونحن في غفلة عما خلقنا الله له ألا وهو العبادة والتي تقتضي الدعوة إلى الله في كل وقت وحين للناس جميعا فعلينا ترتيب أوراق عمرنا الترتيب الصحيح ونصحح نوايانا و أهدافنا ونتخذ من دروس الهجرة نبراسا يضيء لنا دروب الدعوة إلى الله على نهج وسنة المصطفى عليه أفضل الصلاة و التسليم ، ففي الهجرة تمت لرسولنا سنة إخوانه من الأنبياء ممن قبله عليهم الصلاة و السلام ، فما من نبي من الأنبياء عليهم السلام إلا و هاجر من بلده ، فلقد هاجر إبراهيم و إسرائيل ( يعقوب ) عليهما السلام إلى مصر ، و هاجر موسى و هارون عليهما السلام من مصر و هاجر لوط عليه السلام من القرى الظالم أهلها . ( 1 ) .
فمتى غلب المنكر في بلدٍ و كان الخروج فراراً بالدين و أوذي على الحق مؤمنٌ و رأى الباطلُ قاهراً للحق ، و أن يُخلى بينه و بين دينه ، و أن يظهر عبادة ربه آمناً مطمئناً ، و احتياطاً لدينه ، كانت مشروعية الخروج من الوطن حتى لو كان الوطن مكة على فضلها ، كانت تلك الهجرة التي لا تنقطع إلى يوم القيامة ( 2 ) .
إن أعداء الله و الدين – دين الإسلام الذي جاء به الأنبياء جميعهم عليهم السلام – لن يهدأ لهم بال و لن تنام لهم عين ٌ و لن تنفك عزائمهم من ملاحقة الأنبياء و أتباعهم إلى يوم القيامة ، و ما على الدعاة إلا الاستمرارية في الدعوة ، سواءً هاجروا أم لم يهاجروا ، و ذلك حسبما تقتضيه طبيعة المرحلة كأن تكون دعوة البعض منهم سلمية هادفة و بصمت و عزيمة و صبر ، إن كان الداعي واقفاً على ثغر من ثغور الإسلام ، لا يحل محله آخر و لقد ضرب لنا كثير من العلماء الأجلاء النجباء أمثلة حية في عصرنا الحاضر .
و إذا كانت الهجرة مستمرة ٌ إلى أن يرث الله الأرض و من عليها فلا بد لها من توافر شروط و أهمها السرية التامة و الكامنة ،- قال تعالى " خذوا حذركم " الآية - الذي يجب أن يتخذه الدعاة في مسيرتهم الدعوية حتى لا تكون حركاتهم مكشوفة فيتعقبهم العدو و يتربص بهم الدوائر و يقضي عليهم و يبطل دعوتهم و هي في مهدها .
لقد اتخذ – صلى الله عليه و سلم – جميع الأسباب المادية و المعنوية من السرية التامة و تجهيز الراحلة و المؤن الغذائية و محو آثار الأقدام ، حتى كأنه لم يترك للتوكل باباً ، ثم توكل على الله حق التوكل و كأنه لم يعتمد أو يتخذ الأسباب المادية سبباً في هجرته .
ولقد تجلى هذا الشرط ( السرية التامة و الكاملة ) في هجرته صلى الله عليه و سلم بسلام و لم يكن ليهاجر صلى الله عليه و سلم إلا بعد أن يُؤَمِنَ على حياة أصحابه فأمرهم بالهجرة قبله ( فلم يبق في مكة منهم إلا أبو بكر و علي و صهيب و زيد بن حارثة و قليل من المستضعفين الذين لم تمكنهم حالهم من الهجرة (3) .
لقد خرج صلى الله عليه و سلم من بيته ليلاً تاركاً علياً رضي الله عنه و كرم الله وجهه مُسَجَّاً في فراشه (صلى الله عليه و سلم ) و كانت قريش قد ندبت من شبابها ليقفوا بأسلحتهم على باب بيت النبي صلى الله عليه و سلم ينتظرون خروجه فخرج صلى الله عليه و سلم عليهم و هو يقرأ" و جعلنا من بين أيديهم سداً و من خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون " سورة يس الآية 9 .
فألقى الله النوم عليهم حتى لم يره أحد و خرج صلى الله عليه و سلم متجهاً جنوب مكة و هذا من خطته و تعتيمه على العدو ، ثم اتجه صلى الله عليه و سلم نحو الغار ( غار جبل ثور) فأقام فيه و لكن قريشاً سارعت في طلبه صلى الله عليه و سلم ووصلت إلى الغر و لكن عناية الله و لطفه و حفظه و غلبته و نصرته كانت للرسول صلى الله عليه و سلم ، فلو نظر أحد من المشركين تحت قدميه لأبصر النبي صلى الله عليه و سلم و صاحبه أبو بكر رضي الله عنه ، و هذا مما أخاف أبا بكر ، و لكن يقين الرسول صلى الله عليه و سلم بربه كانت أشد رسوخاً من الجبال فقال له مطمئناً
´لا تحزن إن الله معنا " التوبة الآية 40 .
و في هذا اطمئنان للداعي و أتباعه إن صدقوا مع الله و اتخذوا الأسباب التي شرعها الله لهم و لم يقل صلى الله عليه و سلم إن الله معي ، فمعية الله تشمل المُخْلِصينَ و المُخْلَصِينَ ، قال تعالى " إنَّا لننصُرُ رُسُلَنا و الذين آمنوا " الآية ،..." و كذلك حقاً علينا نصر المؤمنين " الآية ، " و إنَّ جُنْدَنا لَهُم الغالِبُون " الآية .
و لقد صار أعدى الأعداء أمية بن خلف يُبْعِدُ لهم اختفاء المطلوبين في مثل هذا الغار فأقاما فيه ثلاث ليالٍ حتى ينقطع الطلب ْ،و لمَّا انقطع الطلب خرجا وسارا متَّبِعينَ طريق الساحل( 4).
في كل زمان و مكان نرى الهجرة متطلب في حق المؤمن بل إن المؤمن يهاجر في كل لحظة عمّا حرم الله إلى ما أحل الله ، و إلى ما يُرضي الله سبحانه ، و غض البصر هجرة و حفظ الجوارح و منها اللسان هجرة ، و لقد قال سيدي الشيخ محمد الحامد رحمه الله ( الحوقلة في الغيبة غيبة ) ( 5 ) .
و تحمل أذى الناس و الصبر عليهم هجرة ، و هجرة المعاصي هجرة ٌ ، و هجرة ما نهى الله عنه كذلك هجرة ٌ ( و المهاجر من هجر ما حرم الله ) .
و الجدير بالذكر أن الإسراء و المعراج كان قبل الهجرة ، و الجدير بنا أن نسري ليلاً بأرواحنا لنركع ركعات ٍ تعرج بها روحنا إلى بارئها رب السماوات و الأرض ، فنطير في ملكوت الله لنسجد لله تعالى بين يديه بخشوع و خضوع و ذلة و انكسار، مع التوبة و الاستغفار فيكون ذلك قوة لأرواحنا و أجسادنا على طاعة الله .
" و يزدكم قوة إلى قوتكم " الآية .
إن الإسراء إلى المسجد الأقصى قبل الهجرة و ضمه إلى المسجد الحرام ثم إلحاق المسجد النبوي الشريف بهما بعد الهجرة إيذاناً بأن المساجد لله تعالى ، فلا دعوة في المسجد إلا لله وحده ، و أن على المسلمين الحفاظ على هذا الإرث المحمدي إلى أن تقوم الساعة ، فكلما اتجه المؤمن بقلبه إلى الكعبة المشرفة ذكَّرَهُ ذلك بالمسجد الأقصى الأسير تحت براثن يهود .
فهجرة المؤمن مستمرة و دائمة ، حتى يستكمل إيمانه ليعيش في صلاة و ذكر ٍ دائمين في حركاته و سكناته و خطراته ، فبذلك تكون سعادته الأبدية .
ولا تنتهي الهجرة إلا بلقاء الله و القرب منه و نيل رضوانه الأكبر جزاء ما لاقى من مشقة ٍ و عنت من أعدائه في هذه الدنيا بدءاً من الشيطان و حزبه ، و انتهاءً بالنفس الأمارة بالسوء و الهوى و سوء الظن و كل خاطر كان لغير الله فيه نصيب.
لقد خرج سراقة بن مالك المدلجي يتتبع أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ويتطلع إلى نيل الجوائز التي وضعتها قريش لمن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم أو يدل عليه فركب فرسه وسار حتى أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم فلما دنا منه عثرت به فرسه فخر عنها ثم ركبها ثانيا وسار حتى صار يسمع قراءة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات فساخت قائمتا فرس سراقة في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخر عنها ثم زجرها حتى نهضت فلم تكد تخرج يديها حتى سطع لأثرهما غبار ساطع في السماء مثل الدخان فعلم سراقة أن عمله ضائع سدى وداخله رعب عظيم فناداهما بالأمان وقالا له أخف عنا ( 6 ) ووعده الرسول صلى الله عليه وسلم بسواري كسرى وكتب أبو بكر رضي الله عنه بذلك كتابا ودفعه إلى سراقة واحتفظ به سراقة إلى أن جاء ذلك اليوم الذي لبس به سواري كسرى .
لقد كان أهل المدينة حينما سمعوا بخروج الرسول صلى الله عليه و سلم و قدومه عليهم يخرجون ليستقبلوا الرسول صلى الله عليه و سلم – لا يردهم عن ذلك إلا حر الظهيرة ، ذات يوم طال انتظارهم فلما رجعوا و إذا بيهودي واقف على أطم من آطامهم ( 7 ) لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله فنادى بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم (أي حظكم ) الذي تنتظرون فتَلَقَّوا رسول الله بظهر الحرة (8 )فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف بقباء ، و الذي حققه المرحوم محمود باشا الفلكي أن ذلك كان في اليوم الثاني من ربيع الأول الذي يوافق 20 سبتمبر 622 للميلاد و هذا أول تاريخ جديد لظهور الإسلام بعد أن مضى عليه ثلاث عشرة سنة و هو مُضَيَّقٌ عليه من مشركي قريش .
ولغرض التأريخ ، إتخذ المسلمون في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام الهجرة كبداية للتأريخ (من محرم سنتها) ، و أقام الرسول صلى الله عليه و سلم بقباء ليالي أسس فيها مسجد على التقوى من أول يوم و صلى فيه ثم تحول صلى الله عليه و سلم إلى المدينة (9) .
فخرجت المدينة على بكرة أبيها ممن أسلم يستقبلون الرسول صلى الله عليه و سلم بالنشيد الخالد الذي يفرح القلب و يثلج الصدر فرحين بفضل الله و نعمته أن أكرمهم بالسعادة و السرور و النظر إلى وجه الرسول صلى الله عليه و سلم قائلين:
طلع البدر علينا من ثنِيَّاتِ الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
نعم لقد أضاء في المدينة بدخول الرسول صلى الله عليه و سلم كل شيء فهو السراج المنير الذي فتح الله به عيوناً عمياً و أسمع آذاناً صماً و خضعت له قلوباً غلفاً كان الران عليها أمثال الجبال فصارت بإتباعه مصابيح الهدى فأصبحت تنظر بنور الله و صدقت فراستها ( أيدخل أحدكم علينا و في عينيه آثار الزنا ) و قول عمر المشهور يا سارية الجبل الجبل .
لقد أصبح للإسلام في المدينة المنورة دولة و رجالاً فتح الله بهم الدنيا و لقد حافظ المهاجرون و الأنصار على دينهم بإتباعهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم فما غيروا و لا بدَّلوا فجاء الفتح المبين العظيم فتح مكة المكرمة .
و انتشر الإسلام في ربوع الجزيرة العربية في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم و تابع الخلفاء الراشدون على النهج الذي تَلَقَّوْهُ من المعلم للبشرية جمعاء (صلى الله عليه و سلم ) .
حتى فتحوا العالم و كانوا خير قادة لخير أمة تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر و تؤمن بالله فكان ذلك يزيد في إيمان المؤمن إيماناً و هدىً على هدى حتى يستقيم أمر المؤمن كما أمر الله تعالى ( فاستقم كما أمرت ) الآية .
*دروس مستفادة من الهجرة :
مقدمة :
إن دروس الهجرة أجلُّ و أعظم من أن تكتب في عجالة و لكن جهد المقل خير من عدمه والله الموفق وولي السداد ، فالهجرة درس عظيم بل فتح عظيم لا يستهان بجزء من جزئية الموضوع: فعلى الأمة عندما تحلك بها الظروف و يتربص بها الأعداء أن يرجعوا إلى الهجرة فيدرسوها دراسة مستفيضة و يطبقونها تطبيقاً حرفياً و كاملا ً حسبما تقتضيه طبيعة المرحلة الراهنة ما دام للكفر و الطاغوت جولة و صولة و دولة على الإسلام و المسلمين .
و الإسلام مكتوف اليدين منزوع السلاح مذبوحة كرامته من الوريد إلى الوريد فالهجرة عند الدعاة السائرين إلى الله تبدأ قبل أن يخطو المؤمن خطوة ً تحسب عليه إن لم تكن مدروسة دراسةً مستفيضةً حيث يجب أن تكون الهمة العالية و النية الصادقة مع العلم و المشورة لأهل الحل و العقد و العقل من الأشياخ المخلصين و إدراك الحمل الثقيل الذي يقوم بحمله أبطال الدعوة ( يا أيها المدثر ، قم فأنذر ، و ربك فكبِّر و ثيابك فطهِّر والرجز فاهجر و لا تمنن تستكثر و لربك فاصبر ) . سورة المدثر .
(و الله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله علي أو أهلك دونه ) .
و في هذا تمام الهجرة و تطبيق شرع الله على أرضه و إصلاحها أو الموت و الشهادة ، و تلك عزيمة أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة و السلام .
و لا يرضى المؤمن الصادق و الدعاة إلا أن يكون الدين كاملاً حتى تتم نعمة الله على عباده ، فإكمال العبد لدينه - بالنية و العمل و المجاهدة – تتمة ٌ لنعمة الله عليه ، " اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا
صلى الله عليه و سلم/الجزء الاول
الحمد لله الغالب على أمره و الناصر لعبده صلى الله عليه و سلم و من تبعه إلى يوم الدين حمداً لا يحصيه و لا يحيطه إلا علمه سبحانه وتعالى الحمد لله الذي جعل الهجرة فتحا ونصرا ونقطة بداية لتكوين نواة الدولة الإسلامية ونشر الدعوة المحمدية وإرغاما لمن جحد وكفر –إبليس و حزبه- من شياطين الإنس والجن الذين مكروا مكرا كبارا وعتوا في الأرض عتوا كبيرا لوأد الدعوة وقتل الدعاة أما بعد :
تهجرنا السنون وترحل عنا وتبزغ علينا سنون ونحن لا ندري أن ذلك يمضي من عمرنا ويقطع سيف الوقت ما شاء من أجسادنا العضو تلو العضو و تر سم على جباهنا الأيام وتوهن العظم ونحن في غفلة عما خلقنا الله له ألا وهو العبادة والتي تقتضي الدعوة إلى الله في كل وقت وحين للناس جميعا فعلينا ترتيب أوراق عمرنا الترتيب الصحيح ونصحح نوايانا و أهدافنا ونتخذ من دروس الهجرة نبراسا يضيء لنا دروب الدعوة إلى الله على نهج وسنة المصطفى عليه أفضل الصلاة و التسليم ، ففي الهجرة تمت لرسولنا سنة إخوانه من الأنبياء ممن قبله عليهم الصلاة و السلام ، فما من نبي من الأنبياء عليهم السلام إلا و هاجر من بلده ، فلقد هاجر إبراهيم و إسرائيل ( يعقوب ) عليهما السلام إلى مصر ، و هاجر موسى و هارون عليهما السلام من مصر و هاجر لوط عليه السلام من القرى الظالم أهلها . ( 1 ) .
فمتى غلب المنكر في بلدٍ و كان الخروج فراراً بالدين و أوذي على الحق مؤمنٌ و رأى الباطلُ قاهراً للحق ، و أن يُخلى بينه و بين دينه ، و أن يظهر عبادة ربه آمناً مطمئناً ، و احتياطاً لدينه ، كانت مشروعية الخروج من الوطن حتى لو كان الوطن مكة على فضلها ، كانت تلك الهجرة التي لا تنقطع إلى يوم القيامة ( 2 ) .
إن أعداء الله و الدين – دين الإسلام الذي جاء به الأنبياء جميعهم عليهم السلام – لن يهدأ لهم بال و لن تنام لهم عين ٌ و لن تنفك عزائمهم من ملاحقة الأنبياء و أتباعهم إلى يوم القيامة ، و ما على الدعاة إلا الاستمرارية في الدعوة ، سواءً هاجروا أم لم يهاجروا ، و ذلك حسبما تقتضيه طبيعة المرحلة كأن تكون دعوة البعض منهم سلمية هادفة و بصمت و عزيمة و صبر ، إن كان الداعي واقفاً على ثغر من ثغور الإسلام ، لا يحل محله آخر و لقد ضرب لنا كثير من العلماء الأجلاء النجباء أمثلة حية في عصرنا الحاضر .
و إذا كانت الهجرة مستمرة ٌ إلى أن يرث الله الأرض و من عليها فلا بد لها من توافر شروط و أهمها السرية التامة و الكامنة ،- قال تعالى " خذوا حذركم " الآية - الذي يجب أن يتخذه الدعاة في مسيرتهم الدعوية حتى لا تكون حركاتهم مكشوفة فيتعقبهم العدو و يتربص بهم الدوائر و يقضي عليهم و يبطل دعوتهم و هي في مهدها .
لقد اتخذ – صلى الله عليه و سلم – جميع الأسباب المادية و المعنوية من السرية التامة و تجهيز الراحلة و المؤن الغذائية و محو آثار الأقدام ، حتى كأنه لم يترك للتوكل باباً ، ثم توكل على الله حق التوكل و كأنه لم يعتمد أو يتخذ الأسباب المادية سبباً في هجرته .
ولقد تجلى هذا الشرط ( السرية التامة و الكاملة ) في هجرته صلى الله عليه و سلم بسلام و لم يكن ليهاجر صلى الله عليه و سلم إلا بعد أن يُؤَمِنَ على حياة أصحابه فأمرهم بالهجرة قبله ( فلم يبق في مكة منهم إلا أبو بكر و علي و صهيب و زيد بن حارثة و قليل من المستضعفين الذين لم تمكنهم حالهم من الهجرة (3) .
لقد خرج صلى الله عليه و سلم من بيته ليلاً تاركاً علياً رضي الله عنه و كرم الله وجهه مُسَجَّاً في فراشه (صلى الله عليه و سلم ) و كانت قريش قد ندبت من شبابها ليقفوا بأسلحتهم على باب بيت النبي صلى الله عليه و سلم ينتظرون خروجه فخرج صلى الله عليه و سلم عليهم و هو يقرأ" و جعلنا من بين أيديهم سداً و من خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون " سورة يس الآية 9 .
فألقى الله النوم عليهم حتى لم يره أحد و خرج صلى الله عليه و سلم متجهاً جنوب مكة و هذا من خطته و تعتيمه على العدو ، ثم اتجه صلى الله عليه و سلم نحو الغار ( غار جبل ثور) فأقام فيه و لكن قريشاً سارعت في طلبه صلى الله عليه و سلم ووصلت إلى الغر و لكن عناية الله و لطفه و حفظه و غلبته و نصرته كانت للرسول صلى الله عليه و سلم ، فلو نظر أحد من المشركين تحت قدميه لأبصر النبي صلى الله عليه و سلم و صاحبه أبو بكر رضي الله عنه ، و هذا مما أخاف أبا بكر ، و لكن يقين الرسول صلى الله عليه و سلم بربه كانت أشد رسوخاً من الجبال فقال له مطمئناً
´لا تحزن إن الله معنا " التوبة الآية 40 .
و في هذا اطمئنان للداعي و أتباعه إن صدقوا مع الله و اتخذوا الأسباب التي شرعها الله لهم و لم يقل صلى الله عليه و سلم إن الله معي ، فمعية الله تشمل المُخْلِصينَ و المُخْلَصِينَ ، قال تعالى " إنَّا لننصُرُ رُسُلَنا و الذين آمنوا " الآية ،..." و كذلك حقاً علينا نصر المؤمنين " الآية ، " و إنَّ جُنْدَنا لَهُم الغالِبُون " الآية .
و لقد صار أعدى الأعداء أمية بن خلف يُبْعِدُ لهم اختفاء المطلوبين في مثل هذا الغار فأقاما فيه ثلاث ليالٍ حتى ينقطع الطلب ْ،و لمَّا انقطع الطلب خرجا وسارا متَّبِعينَ طريق الساحل( 4).
في كل زمان و مكان نرى الهجرة متطلب في حق المؤمن بل إن المؤمن يهاجر في كل لحظة عمّا حرم الله إلى ما أحل الله ، و إلى ما يُرضي الله سبحانه ، و غض البصر هجرة و حفظ الجوارح و منها اللسان هجرة ، و لقد قال سيدي الشيخ محمد الحامد رحمه الله ( الحوقلة في الغيبة غيبة ) ( 5 ) .
و تحمل أذى الناس و الصبر عليهم هجرة ، و هجرة المعاصي هجرة ٌ ، و هجرة ما نهى الله عنه كذلك هجرة ٌ ( و المهاجر من هجر ما حرم الله ) .
و الجدير بالذكر أن الإسراء و المعراج كان قبل الهجرة ، و الجدير بنا أن نسري ليلاً بأرواحنا لنركع ركعات ٍ تعرج بها روحنا إلى بارئها رب السماوات و الأرض ، فنطير في ملكوت الله لنسجد لله تعالى بين يديه بخشوع و خضوع و ذلة و انكسار، مع التوبة و الاستغفار فيكون ذلك قوة لأرواحنا و أجسادنا على طاعة الله .
" و يزدكم قوة إلى قوتكم " الآية .
إن الإسراء إلى المسجد الأقصى قبل الهجرة و ضمه إلى المسجد الحرام ثم إلحاق المسجد النبوي الشريف بهما بعد الهجرة إيذاناً بأن المساجد لله تعالى ، فلا دعوة في المسجد إلا لله وحده ، و أن على المسلمين الحفاظ على هذا الإرث المحمدي إلى أن تقوم الساعة ، فكلما اتجه المؤمن بقلبه إلى الكعبة المشرفة ذكَّرَهُ ذلك بالمسجد الأقصى الأسير تحت براثن يهود .
فهجرة المؤمن مستمرة و دائمة ، حتى يستكمل إيمانه ليعيش في صلاة و ذكر ٍ دائمين في حركاته و سكناته و خطراته ، فبذلك تكون سعادته الأبدية .
ولا تنتهي الهجرة إلا بلقاء الله و القرب منه و نيل رضوانه الأكبر جزاء ما لاقى من مشقة ٍ و عنت من أعدائه في هذه الدنيا بدءاً من الشيطان و حزبه ، و انتهاءً بالنفس الأمارة بالسوء و الهوى و سوء الظن و كل خاطر كان لغير الله فيه نصيب.
لقد خرج سراقة بن مالك المدلجي يتتبع أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ويتطلع إلى نيل الجوائز التي وضعتها قريش لمن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم أو يدل عليه فركب فرسه وسار حتى أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم فلما دنا منه عثرت به فرسه فخر عنها ثم ركبها ثانيا وسار حتى صار يسمع قراءة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات فساخت قائمتا فرس سراقة في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخر عنها ثم زجرها حتى نهضت فلم تكد تخرج يديها حتى سطع لأثرهما غبار ساطع في السماء مثل الدخان فعلم سراقة أن عمله ضائع سدى وداخله رعب عظيم فناداهما بالأمان وقالا له أخف عنا ( 6 ) ووعده الرسول صلى الله عليه وسلم بسواري كسرى وكتب أبو بكر رضي الله عنه بذلك كتابا ودفعه إلى سراقة واحتفظ به سراقة إلى أن جاء ذلك اليوم الذي لبس به سواري كسرى .
لقد كان أهل المدينة حينما سمعوا بخروج الرسول صلى الله عليه و سلم و قدومه عليهم يخرجون ليستقبلوا الرسول صلى الله عليه و سلم – لا يردهم عن ذلك إلا حر الظهيرة ، ذات يوم طال انتظارهم فلما رجعوا و إذا بيهودي واقف على أطم من آطامهم ( 7 ) لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله فنادى بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم (أي حظكم ) الذي تنتظرون فتَلَقَّوا رسول الله بظهر الحرة (8 )فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف بقباء ، و الذي حققه المرحوم محمود باشا الفلكي أن ذلك كان في اليوم الثاني من ربيع الأول الذي يوافق 20 سبتمبر 622 للميلاد و هذا أول تاريخ جديد لظهور الإسلام بعد أن مضى عليه ثلاث عشرة سنة و هو مُضَيَّقٌ عليه من مشركي قريش .
ولغرض التأريخ ، إتخذ المسلمون في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام الهجرة كبداية للتأريخ (من محرم سنتها) ، و أقام الرسول صلى الله عليه و سلم بقباء ليالي أسس فيها مسجد على التقوى من أول يوم و صلى فيه ثم تحول صلى الله عليه و سلم إلى المدينة (9) .
فخرجت المدينة على بكرة أبيها ممن أسلم يستقبلون الرسول صلى الله عليه و سلم بالنشيد الخالد الذي يفرح القلب و يثلج الصدر فرحين بفضل الله و نعمته أن أكرمهم بالسعادة و السرور و النظر إلى وجه الرسول صلى الله عليه و سلم قائلين:
طلع البدر علينا من ثنِيَّاتِ الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
نعم لقد أضاء في المدينة بدخول الرسول صلى الله عليه و سلم كل شيء فهو السراج المنير الذي فتح الله به عيوناً عمياً و أسمع آذاناً صماً و خضعت له قلوباً غلفاً كان الران عليها أمثال الجبال فصارت بإتباعه مصابيح الهدى فأصبحت تنظر بنور الله و صدقت فراستها ( أيدخل أحدكم علينا و في عينيه آثار الزنا ) و قول عمر المشهور يا سارية الجبل الجبل .
لقد أصبح للإسلام في المدينة المنورة دولة و رجالاً فتح الله بهم الدنيا و لقد حافظ المهاجرون و الأنصار على دينهم بإتباعهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم فما غيروا و لا بدَّلوا فجاء الفتح المبين العظيم فتح مكة المكرمة .
و انتشر الإسلام في ربوع الجزيرة العربية في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم و تابع الخلفاء الراشدون على النهج الذي تَلَقَّوْهُ من المعلم للبشرية جمعاء (صلى الله عليه و سلم ) .
حتى فتحوا العالم و كانوا خير قادة لخير أمة تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر و تؤمن بالله فكان ذلك يزيد في إيمان المؤمن إيماناً و هدىً على هدى حتى يستقيم أمر المؤمن كما أمر الله تعالى ( فاستقم كما أمرت ) الآية .
*دروس مستفادة من الهجرة :
مقدمة :
إن دروس الهجرة أجلُّ و أعظم من أن تكتب في عجالة و لكن جهد المقل خير من عدمه والله الموفق وولي السداد ، فالهجرة درس عظيم بل فتح عظيم لا يستهان بجزء من جزئية الموضوع: فعلى الأمة عندما تحلك بها الظروف و يتربص بها الأعداء أن يرجعوا إلى الهجرة فيدرسوها دراسة مستفيضة و يطبقونها تطبيقاً حرفياً و كاملا ً حسبما تقتضيه طبيعة المرحلة الراهنة ما دام للكفر و الطاغوت جولة و صولة و دولة على الإسلام و المسلمين .
و الإسلام مكتوف اليدين منزوع السلاح مذبوحة كرامته من الوريد إلى الوريد فالهجرة عند الدعاة السائرين إلى الله تبدأ قبل أن يخطو المؤمن خطوة ً تحسب عليه إن لم تكن مدروسة دراسةً مستفيضةً حيث يجب أن تكون الهمة العالية و النية الصادقة مع العلم و المشورة لأهل الحل و العقد و العقل من الأشياخ المخلصين و إدراك الحمل الثقيل الذي يقوم بحمله أبطال الدعوة ( يا أيها المدثر ، قم فأنذر ، و ربك فكبِّر و ثيابك فطهِّر والرجز فاهجر و لا تمنن تستكثر و لربك فاصبر ) . سورة المدثر .
(و الله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله علي أو أهلك دونه ) .
و في هذا تمام الهجرة و تطبيق شرع الله على أرضه و إصلاحها أو الموت و الشهادة ، و تلك عزيمة أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة و السلام .
و لا يرضى المؤمن الصادق و الدعاة إلا أن يكون الدين كاملاً حتى تتم نعمة الله على عباده ، فإكمال العبد لدينه - بالنية و العمل و المجاهدة – تتمة ٌ لنعمة الله عليه ، " اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا
تعليق