بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. .
--------------------------------------------------------------------------------
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه اشتمل هذا الحديث على الترغيب في ثلاث خصال من الخصال الحميدة والأخلاق الكريمة: الإحسان بالصدقة، بذل المال في سبيل الله، والعفو عن المسيء، والتواضع، كل هذه الخصال الثلاث قد تضافرت النصوص من الكتاب والسنة على الأمر بها، والترغيب فيها، والثناء على أهلها.
فأول ذلك إنفاق المال وهي الصدقة، الصدقة سواء كانت فرضا أو تطوعا، الصدقة في هذا الحديث شاملة لصدقة الفرض الزكاة، وصدقة التطوع: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ .
والآيات في الأمر بالإنفاق والثناء على المنفقين كثيرة كثيرة، وكذلك الدلائل على مضاعفة الصدقات، فالصدقة حسنة من الحسنات تضاعف إلى عشر إلى سبعمائة ضعف مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يشاء .
وفي هذا الحديث دلالة على أن الصدقة لا تنقص المال: ما نقصت صدقة من مال وهذا الفعل يأتي لازما يعني ليس له مفعول، ويأتي متعديا يعني يتعدى إلى مفعول، وهذا الفعل الذي عندنا هو من المتعدي لكن المفعول محذوف، فالمعنى (ما نقصت صدقة من مال شيئا)، وفي هذا دفع لتوهم أن الصدقة تنقص المال؛ فمن أجل هذا بخل من بخل خوفا على ماله من الذهاب، نعم الصدقة في الصورة الحسية تنقص المال إذا أخذت واحدا من عشرة صارت تسعة، وإذا أخذت من الأربعين واحدا صارت تسعا وثلاثين، لكن إذا قارنت هذا النقص المشهود المحسوس بالمردود، بمردود الصدقة مما يجعله الله من البركة في ذلك المال، ومما يحصل من الإخلاف: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ فوعد بالإخلاف يعني أن الله يخلف عليه ما أنفق ويرزقه من حيث لا يحتسب، ينفق قليلا فيخلف الله عليه كثيرا.
إذا الصدقة لم تنقص بل زادت المال، الصدقة سبب لزيادة المال لا لنقصه في الحقيقة، هذا كله مع ما يدخره الله للمتصدق من الأجر الجزيل المضاعف، وفي هذا ترغيب في الصدقة، ودفع لما يلقيه الشيطان من التخويف ليعوق عن هذا العمل الجليل الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ يعدكم الفقر يخوف إذا تصدقت نفد مالك وبقيت فتعطي المال تعطي مالك لغيرك ينتفع به الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وهو البخل وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا فذكر للصدقة جزاءين المغفرة، والفضل منه سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ فيها تكفير الخطايا، وفيها الأجور ما نقصت صدقة من مال .
ثانيا: قوله صلى الله عليه وسلم: وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا العفو خلق جليل وصف الله به نفسه وندب إليه عباده فهو العفو، وهو يحب العفو للعباد، يحب لعباده أن يعفو بعضهم عن بعض: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فالعفو عن الإساءة، العفو عن المسيء سبب للأجر الجزيل لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا فيه إشارة إلى أن من عفا عفا الله عنه، وفي هذا أيضا دفع التوهم أن العفو مذلة، كما يتوهم الذين يأخذون بالثأر وينتقمون لأنفسهم، أو يعتدون أيضا يعني من الناس من يعفو في حقه من المسيء وينتقم لنفسه، ويطالب بحقه، ومنهم من لا يقف عند هذا الحد بل يعتدي ويظلم.
هذه ثلاث مواقف في معاملة المسيء؛ لأن المعاقبة بالمثل، هذا عدل وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ .
الحال الثاني أن يعفو ويصبر، وهذا فضل فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُور .
وفي الحقيقة أن العفو هو الذي فيه العزة ليس فيه مذلة، بل هو عزة وقوة، الله يقول: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فليس في العفو مذلة بل في العفو عزة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ففي هذا دفع للتوهم أن في العفو مذلة؛ ومن أجل ذلك يمتنع بعض الناس من العفو يظن أن هذا ضعف ومذلة فيأبى إلا أن ينتقم بعدل أو بظلم، ففي العفو أجر، وفيه محمدة، وفيه ما يرجى من عفو الله فمن عفا عفا الله عنه وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا .
خصلة ثالثة قوله: وما تواضع أحد لله إلا رفعه التواضع في الخضوع والتذلل، وضد التواضع الكبر، وهو من قبيح الخصال، والتواضع من خير الخصال، وكريم السجايا، وإذا الكبر هو بطر الحق - رده - وغمط الناس، كما فسره النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فالتواضع هو الانقياد للحق، وقبول الحق ممن جاء به، واحترام الناس وإنزالهم منازلهم، وهذا يتضمن النصيحة كما تقدم. التواضع للخلق هو من النصيحة لهم، يتضمن رحمة الصغير، وتوقير الكبير، وإرشاد الضال، وبذل المعروف.
وما تواضع أحد لله إلا رفعه وهذا من جنس ما قبله، فيه توهم أن التواضع يورث الانحطاط، فقابله بالرفعة، ففي تناسب من تواضع، وما تواضع أحد لله إلا رفعه لأن المتكبر يريد الرفعة والعلو عن الناس، وهو حقيق بأن يذله الله، وضد ذلك التواضع جعله الله سببا للرفعة، وقوله: "لله" يحتمل عندي أن المراد أنه تواضع مخلصا في تواضعه لله من أجل الله، لا تزينا وتصنعا وإظهارا للتواضع، وهو في قلبه بخلاف ذلك. بل تواضع لله "وما تواضع أحد لله" يعني تواضع لعباد الله مخلصا في ذلك لله "إلا رفعه" يحتمل أن المراد: تواضع لله، يعني تذلل لربه، وانقاد لأمره، وبهذا تحقيق العبودية، العبودية لله تتضمن الذل والخضوع، وكل من الأمرين مطلوب، التواضع لله بعبادته، والانقياد لأمره.
والتواضع لعباد الله باحترامهم، وعدم التطاول والترفع عليهم، وهذا مما يرفع الله به العبد، هذا وهذا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ فالمقصود أن هذه ثلاث خصال كريمة جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وفي هذا البيان دفع لتوهم ما يظنه الجاهلون من أن الصدقة سبب للفقر؛ لأنها تنقص المال، وأن العفو سبب المذلة والهوان، وأن التواضع سبب الانحطاط بل الصدقة سبب للمزيد، والعفو سبب للعز، والتواضع سبب للرفعة، نعم والله أعلم.
تعليق