الذين لا يُصعقون عند النفخ في الصّور
أخبرنا الباري جلَّ وعلا أن بعض من في السماوات ومن في الأرض لا يُصعقون عندما يُصعق من في السماوات ومن في الأرض ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ) [ الزمر : 68 ] .
وقد اختلف العلماء في تعيين الذين عناهم الحق بالاستثناء في قوله : ( إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ).
1- فذهب ابن حزم إلى أنهم جميع الملائكة ، لأن الملائكة في اعتقاده أرواح لا أرواح فيها ، فلا يموتون أصلاً .
وهذا الذي ذهب إليه من أن الملائكة لا يموتون لا يُسلم له ، فالملائكة خلق من خلق الله تبارك وتعالى ، وهم عبيد مربوبون مقهورون ، خلقهم ، وهو قادر على إماتتهم وإحيائهم ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه ، وعن غير واحد من الصحابة أنه قال : " إن الله إذا تكلم بالوحي أخذ الملائكة منه مثل الغشى " ، وفي رواية : " إذا سمعت الملائكة كلامه صعقوا " فأخبر في هذا الحديث أنهم يصعقون صعق الغشي ، فإذا جاز عليهم صعق الغشي ، جاز عليهم صعق الموت " .
2- وذهب مقاتل وغيره إلى أنهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت (3) .
وأضاف إليه بعض أهل العلم حملة العرش (4) .
وصحة هذا متوقف على أحاديث رووها ، وأهل العلم بالحديث لا يصححون مثلها (5) .
3- وذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أن المراد بهم الذين في الجنة من الحور العين والولدان ، وأضاف إليهم أبو إسحاق بن شاقلا من الحنابلة ، والضحاك بن مزاحم : خزان الجنة والنار ، وما فيها من الحيات والعقارب (6) .
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى : " وأما الاستثناء فهو متناول لما في الجنة من الحور العين ، فإن الجنة ليس فيها موت " (7) .
4- وقد جنح أبو العباس القرطبي صاحب (( المفهم إلى شرح مسلم )) إلى أن المراد بهم الأموات كلهم ، لكونهم لا إحساس لهم ، فلا يصعقون (8) .
وما ذهب إليه أبو العباس صحيح إذا فسرنا الصعق بالموت ، فإن الإنسان يموت مرة واحدة ، قال تعالى : ( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ) [ الدخان : 56 ] .
وقد عقد ابن القيم في كتابه : (( الروح )) فصلاً بيَّن فيه أن أهل العلم قد اختلفوا في موت الأرواح عند النفخ في الصور .
والذي رجحه ابن القيم أن موت الأرواح هو مفارقتها للأجساد ، وخروجها منها ، وردَّ قول الذين قالوا بفناء الأرواح وزوالها ، لأن النصوص دلت على أن الأرواح تبقى في البرزخ معذبة أو منعمة (9) .
أما إذا فسرنا الصعق بالغشى ، فإن الأرواح تصعق بهذا المعنى ولا تكون داخلة فيمن استثنى الله تبارك وتعالى ، فإن الإنسان قد يسمع أو يرى ما يفزعه ، فيصعق ، كما وقع لموسى عندما رأى الجبل قد زال من مكانه ( وَخَرَّ موسَى صَعِقًا ) [الأعراف : 143] .
وقد جاء هذا المعنى صريحاً في بعض النصوص ، ففي حديث أبي هريرة ، عند البخاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تخيروني على موسى ، فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى باطش بجانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي ، أو كان ممن استثنى الله " (10) .
ورواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة بلفط : " إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة ، فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش ، فلا أدري ، أكذلك كان ، أم بعد النفخة " (11) .
ورواه في موضع ثالث بلفظ : " فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن أفاق قبلي ، أو كان ممن استثنى الله " (12) .
وهذا الحديث صريح في أن الموتى يصعقون ، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد المرسلين يصعق ، فغيره أولى بالصعق .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الذي يصعق صعق غشى هم الشهداء دون غيرهم من الأموات ، وأضاف إليهم آخرون من الأنبياء .
والسر في قَصْر هذا على الشهداء والأنبياء – كما يقول شيخ القرطبي : أحمد بن عمر - : " أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين ، وهذه صفة الأحياء في الدنيا ، وإذا كان هذا حال الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى، مع أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس ، وفي السماء ، وخصوصاً بموسى ، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى يردُّ عليه روحه ، حتى يرد السلام على كل من يسلم عليه ، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم ، وإن كانوا موجودين أحياء .. وإذا تقرر أنهم أحياء ، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق ، صعق كل من في السماوات ومن في الأرض ، إلا من شاء الله " (13) .
وذهب إلى أن الشهداء والأنبياء يصعقون صعق غشي البيهقي فقال في صعق الأنبياء: " ووجهه عندي أنهم أحياء عند ربهم كالشهداء ، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا ، ثم لا يكون ذلك موتاً في جميع معانيه ، إلا في ذهاب الاستشعار ، وقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون موسى ممن استثنى الله ، فإن كان منهم فإنه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة بسبب ما وقع في صعقة الطور " (14) .
وبناء على هذا الفقه يكون الأنبياء والشهداء من الذين يصعقون ، ولا يكونون داخلين في الاستثناء ، وقد نقل عن ابن عباس وأبي هريرة وسعيد ابن جبير أن الأنبياء والشهداء من الذين استثناهم الله (15) ، وعزاه ابن حجر إلى البيهقي (16) ، فإن كان المراد استثناؤهم من الموت فإن هذا حق، وإن كان المراد استثناؤهم من الصعق الذي يصيب الأموات كما دل عليه حديث موسى فالأمر ليس كذلك .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الأولى بالمسلم التوقف في تعيين الذين استثناهم الله ، لأنه لم يصح في ذلك نص يدل على المراد .
قال القرطبي صاحب التذكرة : " قال شيخنا أبو العباس : والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح ، والكل محتمل " (17) .
وقال ابن تيمية : " وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين ، فإن الجنة ليس فيها موت ، ومتناول لغيرهم ، ولا يمكن الجزم بكل ما استثناه الله ، فإن الله أطلق في كتابه .. والنبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في موسى ، وهل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا ؟
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يُخْبَر بكل من استثنى الله ، لم يمكننا نحن أن نجزم بذلك ، وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة وأعيان الأنبياء ، وأمثال ذلك مما لم يخبر الله به ، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر ، والله أعلم " (18) .
ونقل القرطبي عن الحليمي أنه أبى أن يكون المستثنون هم حملة العرش أو جبرائيل وميكائيل وملك الموت ، أو الولدان والحور العين في الجنة ، أو موسى ، ثم بيَّن سر إنكاره لهذا فقال : " أما الأول ، فإن حملة العرش ليسوا من سكان السماوات ولا الأرض ، لأن العرش فوق السماوات كلها ، فكيف يكون حملته في السماوات .
وأما جبرائيل وميكائيل وملك الموت فمن الصافين المسبحين حول العرش ، وإذا كان العرش فوق السماوات ، لم يكن الاصطفاف حوله في السماوات . وكذلك القول الثاني لأن الولدان والحور العين في الجنان ، والجنان وإن كان بعضها أرفع من بعض ، فإن جميعها فوق السماوات ودون العرش ، وهي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء ، فلا شك أنها بمعزل عما خلق الله تعالى للفناء ، وصَرْفُه إلى موسى لا وجه له ، لأنه قد مات بالحقيقة ، فلا يموت عند نفخ الصور ثانية " (19) .
ورد قول الذين قالوا المستثنون هم الأموات : " لأن الاستثناء إنما يكون لمن يمكن دخوله في الجملة ، فأما من لا يمكن دخوله في الجملة فيها ، فلا معنى لاستثنائه منها ، والذين ماتوا قبل نفخ الصور ليسوا بفرض أن يصعقوا فلا وجه لاستثنائهم " (20) .
والذي اختاره أن الغشية التي تصيب موسى ليست هي الصعقة التي تهلك الناس وتميتهم ، وإنما هي صعقة تصيب الناس في الموقف بعد البعث ، على أحـد الاحتمالين عنده .
ونقل القرطبي عن شيخه أحمد بن عمر أنه ذهب هذا المذهب ، قال القرطبي : " قال شيخنا أحمد بن عمر : وظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن ذلك إنما هو بعد النفخة الثانية نفخة البعث ، ونص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق ، ولما كان هذا قال بعض العلماء : يحتمل أن يكون موسى عليه السلام ممن لم يمت من الأنبياء ، وهذا باطل ، بما تقدم من ذكر موته .
وقال القاضي عياض : يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشر ، حين تنشق السماوات والأرض فتستقل الأحاديث والآيات والله أعلم " (21) .
وقد جزم ابن القيم رحمه الله تعالى بأن الصعقة التي تحدّث عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، هي صعقة تكون بعد البعث ، وهي المراد بقوله تعالى : ( فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ) (22) [ الطور : 45 ] . والله أعلم بالصواب .
منقول والسلام عليكم
أخبرنا الباري جلَّ وعلا أن بعض من في السماوات ومن في الأرض لا يُصعقون عندما يُصعق من في السماوات ومن في الأرض ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ) [ الزمر : 68 ] .
وقد اختلف العلماء في تعيين الذين عناهم الحق بالاستثناء في قوله : ( إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ).
1- فذهب ابن حزم إلى أنهم جميع الملائكة ، لأن الملائكة في اعتقاده أرواح لا أرواح فيها ، فلا يموتون أصلاً .
وهذا الذي ذهب إليه من أن الملائكة لا يموتون لا يُسلم له ، فالملائكة خلق من خلق الله تبارك وتعالى ، وهم عبيد مربوبون مقهورون ، خلقهم ، وهو قادر على إماتتهم وإحيائهم ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه ، وعن غير واحد من الصحابة أنه قال : " إن الله إذا تكلم بالوحي أخذ الملائكة منه مثل الغشى " ، وفي رواية : " إذا سمعت الملائكة كلامه صعقوا " فأخبر في هذا الحديث أنهم يصعقون صعق الغشي ، فإذا جاز عليهم صعق الغشي ، جاز عليهم صعق الموت " .
2- وذهب مقاتل وغيره إلى أنهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت (3) .
وأضاف إليه بعض أهل العلم حملة العرش (4) .
وصحة هذا متوقف على أحاديث رووها ، وأهل العلم بالحديث لا يصححون مثلها (5) .
3- وذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أن المراد بهم الذين في الجنة من الحور العين والولدان ، وأضاف إليهم أبو إسحاق بن شاقلا من الحنابلة ، والضحاك بن مزاحم : خزان الجنة والنار ، وما فيها من الحيات والعقارب (6) .
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى : " وأما الاستثناء فهو متناول لما في الجنة من الحور العين ، فإن الجنة ليس فيها موت " (7) .
4- وقد جنح أبو العباس القرطبي صاحب (( المفهم إلى شرح مسلم )) إلى أن المراد بهم الأموات كلهم ، لكونهم لا إحساس لهم ، فلا يصعقون (8) .
وما ذهب إليه أبو العباس صحيح إذا فسرنا الصعق بالموت ، فإن الإنسان يموت مرة واحدة ، قال تعالى : ( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ) [ الدخان : 56 ] .
وقد عقد ابن القيم في كتابه : (( الروح )) فصلاً بيَّن فيه أن أهل العلم قد اختلفوا في موت الأرواح عند النفخ في الصور .
والذي رجحه ابن القيم أن موت الأرواح هو مفارقتها للأجساد ، وخروجها منها ، وردَّ قول الذين قالوا بفناء الأرواح وزوالها ، لأن النصوص دلت على أن الأرواح تبقى في البرزخ معذبة أو منعمة (9) .
أما إذا فسرنا الصعق بالغشى ، فإن الأرواح تصعق بهذا المعنى ولا تكون داخلة فيمن استثنى الله تبارك وتعالى ، فإن الإنسان قد يسمع أو يرى ما يفزعه ، فيصعق ، كما وقع لموسى عندما رأى الجبل قد زال من مكانه ( وَخَرَّ موسَى صَعِقًا ) [الأعراف : 143] .
وقد جاء هذا المعنى صريحاً في بعض النصوص ، ففي حديث أبي هريرة ، عند البخاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تخيروني على موسى ، فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى باطش بجانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي ، أو كان ممن استثنى الله " (10) .
ورواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة بلفط : " إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة ، فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش ، فلا أدري ، أكذلك كان ، أم بعد النفخة " (11) .
ورواه في موضع ثالث بلفظ : " فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن أفاق قبلي ، أو كان ممن استثنى الله " (12) .
وهذا الحديث صريح في أن الموتى يصعقون ، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد المرسلين يصعق ، فغيره أولى بالصعق .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الذي يصعق صعق غشى هم الشهداء دون غيرهم من الأموات ، وأضاف إليهم آخرون من الأنبياء .
والسر في قَصْر هذا على الشهداء والأنبياء – كما يقول شيخ القرطبي : أحمد بن عمر - : " أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين ، وهذه صفة الأحياء في الدنيا ، وإذا كان هذا حال الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى، مع أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس ، وفي السماء ، وخصوصاً بموسى ، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى يردُّ عليه روحه ، حتى يرد السلام على كل من يسلم عليه ، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم ، وإن كانوا موجودين أحياء .. وإذا تقرر أنهم أحياء ، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق ، صعق كل من في السماوات ومن في الأرض ، إلا من شاء الله " (13) .
وذهب إلى أن الشهداء والأنبياء يصعقون صعق غشي البيهقي فقال في صعق الأنبياء: " ووجهه عندي أنهم أحياء عند ربهم كالشهداء ، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا ، ثم لا يكون ذلك موتاً في جميع معانيه ، إلا في ذهاب الاستشعار ، وقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون موسى ممن استثنى الله ، فإن كان منهم فإنه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة بسبب ما وقع في صعقة الطور " (14) .
وبناء على هذا الفقه يكون الأنبياء والشهداء من الذين يصعقون ، ولا يكونون داخلين في الاستثناء ، وقد نقل عن ابن عباس وأبي هريرة وسعيد ابن جبير أن الأنبياء والشهداء من الذين استثناهم الله (15) ، وعزاه ابن حجر إلى البيهقي (16) ، فإن كان المراد استثناؤهم من الموت فإن هذا حق، وإن كان المراد استثناؤهم من الصعق الذي يصيب الأموات كما دل عليه حديث موسى فالأمر ليس كذلك .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الأولى بالمسلم التوقف في تعيين الذين استثناهم الله ، لأنه لم يصح في ذلك نص يدل على المراد .
قال القرطبي صاحب التذكرة : " قال شيخنا أبو العباس : والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح ، والكل محتمل " (17) .
وقال ابن تيمية : " وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين ، فإن الجنة ليس فيها موت ، ومتناول لغيرهم ، ولا يمكن الجزم بكل ما استثناه الله ، فإن الله أطلق في كتابه .. والنبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في موسى ، وهل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا ؟
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يُخْبَر بكل من استثنى الله ، لم يمكننا نحن أن نجزم بذلك ، وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة وأعيان الأنبياء ، وأمثال ذلك مما لم يخبر الله به ، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر ، والله أعلم " (18) .
ونقل القرطبي عن الحليمي أنه أبى أن يكون المستثنون هم حملة العرش أو جبرائيل وميكائيل وملك الموت ، أو الولدان والحور العين في الجنة ، أو موسى ، ثم بيَّن سر إنكاره لهذا فقال : " أما الأول ، فإن حملة العرش ليسوا من سكان السماوات ولا الأرض ، لأن العرش فوق السماوات كلها ، فكيف يكون حملته في السماوات .
وأما جبرائيل وميكائيل وملك الموت فمن الصافين المسبحين حول العرش ، وإذا كان العرش فوق السماوات ، لم يكن الاصطفاف حوله في السماوات . وكذلك القول الثاني لأن الولدان والحور العين في الجنان ، والجنان وإن كان بعضها أرفع من بعض ، فإن جميعها فوق السماوات ودون العرش ، وهي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء ، فلا شك أنها بمعزل عما خلق الله تعالى للفناء ، وصَرْفُه إلى موسى لا وجه له ، لأنه قد مات بالحقيقة ، فلا يموت عند نفخ الصور ثانية " (19) .
ورد قول الذين قالوا المستثنون هم الأموات : " لأن الاستثناء إنما يكون لمن يمكن دخوله في الجملة ، فأما من لا يمكن دخوله في الجملة فيها ، فلا معنى لاستثنائه منها ، والذين ماتوا قبل نفخ الصور ليسوا بفرض أن يصعقوا فلا وجه لاستثنائهم " (20) .
والذي اختاره أن الغشية التي تصيب موسى ليست هي الصعقة التي تهلك الناس وتميتهم ، وإنما هي صعقة تصيب الناس في الموقف بعد البعث ، على أحـد الاحتمالين عنده .
ونقل القرطبي عن شيخه أحمد بن عمر أنه ذهب هذا المذهب ، قال القرطبي : " قال شيخنا أحمد بن عمر : وظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن ذلك إنما هو بعد النفخة الثانية نفخة البعث ، ونص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق ، ولما كان هذا قال بعض العلماء : يحتمل أن يكون موسى عليه السلام ممن لم يمت من الأنبياء ، وهذا باطل ، بما تقدم من ذكر موته .
وقال القاضي عياض : يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشر ، حين تنشق السماوات والأرض فتستقل الأحاديث والآيات والله أعلم " (21) .
وقد جزم ابن القيم رحمه الله تعالى بأن الصعقة التي تحدّث عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، هي صعقة تكون بعد البعث ، وهي المراد بقوله تعالى : ( فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ) (22) [ الطور : 45 ] . والله أعلم بالصواب .
منقول والسلام عليكم
تعليق