بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا، وإمامنا، وأسوتنا، وحبيبنا، ومعلمنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد..
إن تأخير التوبة يؤدي لتمكين الذنب والمعاصي من القلب، وأن تأخيرها يعد ذنبًا جديدًا، وأن للتوبة موانع، من أخطرها التسويف وطول الأمل
و إن من موانع التوبة أيضا الاستهانة بالذنوب واستصغارها، والاتكال على أماني العفو، واستحكام الذنوب في قلب العاصي، بحيث تسد عليه أبواب الرجاء والأمل، بالإضافة إلى الاحتجاج بالقدر، فنحن نؤمن بالقدر لكن لا نحتج به لأن ذلك من فعل المشركين.
و إن للتوبة دوافع، منها معرفة مقام الله عز وجل، وذكر الموت، وذكر الآخرة، كما أن لها ثمرات، إذ تجعل الإنسان يشعر بأنه في معية الله سبحانه وتعالى كما تشعره بمحبة الله له، فضلا عن أنها تنقله إلى حياة روحية جديدة، يؤكد بها انتصار آدميته على الحيوان الكامن في داخله.
فالتوبة فريضة على كل من أذنب، ولذلك قال تعالى (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ومعناها أنه لابد من التوبة، لكن هل التوبة على الفور أم يمكن تأخيرها؟ التوبة على الفور، وتأخيرها معصية أخرى، وكلما أخر الإنسان التوبة، تمكنت الذنوب والمعاصي من قلبه؛ لأن الإنسان كما جاء في الأحاديث: "إذا أذنب ذنباً كانت نقطة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر ثقل منها"، فإذا لم يتب وأذنب ذنبًا آخر، أصبحت النقطة السوداء نقطتين، حتى يمتلئ قلبه بالسواد، وهذا ما ذكره الله في قوله (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
ولذلك كانت التوبة على الفور فريضة؛ فالتسويف من أخطر الأشياء على الإنسان في طريقه إلى الله، ولذلك السلف قالوا: "سوف" جند من جنود إبليس، فمن الوسائل التي يستخدمها إبليس في إبعاد العباد عن ساحة الله ـ عز وجل ـ يقول له: تب غدًا أنت ما زلت صغيرًا في العشرين، انتظر حتى يصير عمرك ثلاثين، وهكذا تمضي الثلاثون والأربعون والسبعون، وهو يسوف،
للتوبة موانع منها:
المانع الاول طول الأمل.
التسويف مانع خطير جدًّا؛ لأنه لا أحد يضمن متى يموت، فالصحيح يمرض، وصاحب الأمور الميسرة قد تحدث له عوائق (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً) ولذلك يجب أن يتصف الإنسان بالحزم، فيبادر إلى الطاعات، وإذا وقع في المعصية يبادر بمحو هذه المعصية "اتبع السيئة الحسنة تمحها" فيبادر بالتوبة، وإلا وقع في الخطر، ونعبر عن هذا المانع بـ "التسويف" أو بـ "طول الأمل"، والأمل مطلوب، والإنسان لابد أن يكون عنده أمل، والأمل الذي به تعمر الحياة، ويتقدم المجتمع ويتطور الناس، لا مانع منه، إنما الخطر في طول الأمل، وأن يستبعد الإنسان الموت، وهو ليس بعيدًا عن أحد:
كل امرئ مصبحًا في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وفي عصرنا رأينا أسباب الموت كثيرة، فالحضارة لها ثمن، وانظر إلى حوادث السيارات، والقطارات، والبواخر، والله تعالى يقول: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ البَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)
ماذا عن باقي موانع التوبة؟
الاستهانة بالذنوب
المانع الثاني
هو الاستهانة بالذنوب، كما جاء في حديث ابن مسعود في البخاري "المؤمن يرى ذنبه كالجبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا وهكذا" أي أطاره بيده وانتهى الأمر. والمؤمن دائمًا يخاف من ذنوبه، والمنافق يستصغر الذنوب، والإنسان الغافل لا يهتم بالذنوب، وأحد الصالحين يقول: لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى كبرياء من عصيت، أنت عصيت ربًا عظيمًا، القرآن يشير إلى هذا الأمر حينما تحدث بعض المسلمين عن حديث الإفك (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)
استصغار المعاصي أمر خطير، ومن ذلك ما ذكرته في حلقة سابقة من أن إنسانًا يقول لك: القبلة من الصغائر، لكنها مهما كانت من الصغائر فهي حرام، واستهانتك بها تجعلها كبيرة، وقد ذهب بعض الصالحين لزيارة أحد العلماء فوجدوه في مرض الموت ويبكي بكاءً مرًّا، فقالوا له أنت تبكي، وأنت الذي طالما صليت، وطالما زكيت، وطالما صمت، وطالما اعتمرت، وطالما علمت، وطالما أمرت بالمعروف ونهيت عن منكر، فقال لهم: لا أبكي من أجل هذا، ولكني أخشى أن أكون قد أتيت ذنبًا أحسبه هينًا وهو عند الله عظيم.
** لعل هذا هو الذي جعل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يذهب إلى حذيفة ويستحلفه بالله هل ذكره له النبي من المنافقين أم لا؟
نعم؛ لأن دائمًا العلماء قالوا: ما خشي النفاق إلا مؤمن ولا آمنه إلا منافق، فالمنافق آمن على نفسه، إنما المؤمن يخشى أن يكون داخلاً في المنافقين وهو لا يدري، ويقول بعضهم أدركت كذا وكذا من الصحابة والتابعين كلهم يخشى النفاق على نفسه، وعمر يقول لحذيفة هل سماني رسول الله لك، أي قال لك إني واحد منهم، فيقول له: لا، ولا أزكي أحد بعدك، أي لن أفتح الباب لكل إنسان كي يأتي ويسألني، وعمر أيضا هو الذي قال: لو نادى منادٍ يوم القيامة: كل الناس في الجنة إلا واحدًا، لخفت أن أكون ذلك الواحد، ولو ناد المنادي: كل الناس في النار إلا واحدًا: لرجوت أن أكون ذلك الواحد، فالخوف والرجاء يعدلان كفة الميزان معًا.
وكثير من الناس يقول: يا ليت كل الذنوب مثل هذه، وهذا خطير جدًّا، فلابد على المسلم أن يستكبر المعصية في نفسه؛ لأنه عصى ربًا عظيمًا.
** فماذا عن المانع الثالث؟
المانع الثالث
هو الاتكال على أماني العفو، وأن يقول الله غفور رحيم، ورحمته وسعت كل شيء، ونحسن الظن بالله تعالى، وكما قال الحسن البصري: كذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العلم، فالله غفور رحيم لكنه كما قال (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ)، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ) (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ)
فالمفروض أن نعطي كلاً من الجانبين حقه، بحيث يتوازن الخوف والرجاء في نفس الإنسان المسلم، فلا يبلغ به الرجاء إلى درجة الأمن من مكر الله، (فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ) ولا يبلغ به الخوف إلى درجة اليأس من روح الله (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ) وإنما يكون كما وصف الله بعض عباده (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) و(أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) و(وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا).
** وماذا عن المانع الرابع؟
المانع الرابع
استحكام الذنوب
هو استحكام الذنوب في قلب العاصي، بحيث تسد عليه باب الأمل والرجاء، فييأس من رحمة الله، ويقول: لا فائدة.. أنا ذاهب إلى جهنم مباشرة، وهذا خطأ كبير جدًّا، فليس هناك ذنب يستعصي على عفو الله، ومهما كبر الذنب فإن عفو الله أعظم منه، ورحمة الله أوسع منه، والله تعالى يقول في كتابه (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) فهم مذنبون ومسرفون على أنفسهم بمعاصي الله، لكنه يقول (قُلْ يَا عِبَادِيَ) أي لم يحرمهم من شرف العبودية لله والانتساب إلى الله، فكل الذنوب تمحى بالتوبة حتى الشرك (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ)، الإمام حسن البصري قرأ في سورة البروج قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ) فهم شقوا الأخاديد ووضعوا فيها النار، وحرقوا فيها المؤمنين، والقرآن مع ذلك فتح لهم الباب ليتوبوا، ثم لم يتوبوا، فهل هناك أكثر من هذا؟ فليس هناك ذنب يستعصي على التوبة، وعندنا في صحيح البخاري قصة الرجل قاتل التسعة وتسعين نفسًا، وعندما ذهب إلى أحد الرهبان قال له: اذهب أنت ليست لك توبة، فقال له: أنا ليس لي توبة سأكمل بك المائة، فاليأس يجعل الإنسان يفعل ما يشاء، وعندما ذهب إلى عالم لم يغلق في وجهه باب التوبة، وقال له انتقل فقط من قرية طالحة إلى قرية صالحة.
المانع الخامس
فهو الاحتجاج بالقدر، وبعض الناس يقول: ربنا كتب عليّ هذا.
** لكن هذه حقيقة، فربنا مقدر هذا فعلاً؟
نعم، لكن لا يجوز الاحتجاج بالقدر، فنحن نرضى بالقدر، ونؤمن به، لكن لا نجعله حجة لنا، وأهل الشرك هم الذين فعلوا ذلك، حيث قالوا (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا) فكيف عرفت أن ربنا كتب عليك هذا؟ وإن كنت عرفت هذا فيما مضى بحكم الوقوع، فكيف عرفت في القادم إن ربنا كتب لك الطاعة أو المعصية؟
أنت تأخذ بالأمر ولا تأخذ بالقدر، حتى الإنسان إذا وقع في شيء لا يصح أن يقول: يا رب أنت قدرت علي هذا، وجاء في بعض الآثار أن أحدهم حينما أراد أن يستغفر قال يا رب أنت قضيت أنت قدرت، أنت حكمت، فقال الله تعالى: هذا حق الربوبية، فأين أدب العبودية، قال: يا رب أنا أذنبت، أنا أخطأت، أنا عصيت، فقال: أنا غفرت، وأنا عفوت.
فهذا شأن الإنسان المؤمن يتأدب بأدب العبودية، ولا ينسب المعصية إلى الله ـ عز وجل ـ وتحدث القرآن عمن يستغفرون (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) فهم اتهموا أنفسهم، ولم يقولوا إن ربنا هو الذي فعل بنا، لكنهم قالوا: نحن الذين قصرنا فجرى علينا ما جرى.
** الناس تختلف وتنافس، وبعضهم أحيانًا إذا رأى الطرف الآخر وقع في معصية ما، يفرح بهذه المعصية، فما تعليقاكم؟
هذا شيء مذموم جدًّا؛ لأن المؤمن دائمًا يفرح بطاعة الله، وكلما وجد إنسانًا وفق إلى خير يقول الحمد لله، واللهم كثر المؤمنين، وإذا وجد إنسانًا وقع في شر أو خطيئة يحزن من أجل هذا، ويسأل الله أن يتوب عليه، لكن إذا كان يهمه أن أعداءه تكثر خطاياهم، فهذا ليس من الإيمان في شيء، إنما هو من التعصب الأعمى، فلذلك أهل الإخلاص يتمنون أن كل الناس تتوب إلى الله وتهتدي إلى الحق، خصومهم قبل أنصارهم.
** هذا الأمر قد يحدث أحيانًا بين العلماء أو الدعاة؟
يمكن هذا، وهم قالوا إن العلماء يدخلون النار بالحسد، فهناك بعض الناس تدخل النار بالكذب، وأناس تدخل بالغش، إنما العلماء بالتحاسد فيما بينهم وبين بعض، ونسأل الله العافية من هذه الأجواء والأمراض.
الدوافع، التي تجعل قلب الإنسان يتحرك ويلجأ إلى ربه ويعود سريعًا إذا أذنب
أول دافع
أن يعرف مقام الله عز وجل، وأن الله سبحانه وتعالى جدير بأن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، فنعمه تعالى تغمره من قرنه إلى قدمه (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا)، (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)، فكيف يقابل الإحسان بالإساءة، ويقابل النعم بالكفران، وكما جاء في بعض الآثار الإلهية "إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، فيتباغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي" فالإنسان إذا عرف هذا يسرع إلى طاعة الله ويسرع إلى التوبة كلما وقع في معصية.
** لكن هذه الدرجة لا يصل إليها إلا الصالحون أو من أنعم الله ـ عز وجل ـ عليهم بهذا الأمر؟
نعم، لكن أصلها مركوز في الفطرة، ولذلك تجد كثيرًا من الناس من العصاة، إذا وفق إلى إنسان يقول له: أنت يا أخي مسلم، تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، كيف تقام الصلاة أمامك، وتسمع الأذان، وتجد الناس من حولك يصلون وأنت تأبى أن تركع لله ركعة، وتأبى أن تعفر جبهتك لله، وأنت كلك من الله، وكلك إلى الله، ربما إذا وجد هذا عرف مقام الله ـ سبحانه وتعالى ـ فسارع إلى التوبة، فهو يحتاج إلى نفحة إلهية، توقظه من غفلته وتذكره من نسيانه.
الدافع الثاني إلى تعجيل التوبة
ذكر الموت وزيارة المقابر
** لكن ذكر الموت قد يؤدي إلى اليأس؟
نحن لا نريده أن يظل أربعًا وعشرين ساعة يذكر الموت، فقط نريده أن يخلو إلى نفسه، وينزع نفسه من هذه الدنيا لحظات يذكر فيها الموت، "اذكروا هاذم اللذات"، فهذا شيء مهم جدًّا؛ وإذا كان يعيش في النعيم فلا يدع نفسه يغرق في النعيم، وينسى أنه ميت لا محالة، "عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنه مجزي به"، فلابد أن يكون الموت على باله، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ) ولا يستبعده، فذلك الذي سميناه طول الأمل، و"تزود من التقوى فإنك لا تدري.. إذا جن ليلاً هل تعيش إلى الفجر.. فكم من سليم مات من غير علة.. وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر.. وكم من فتى يمسي ويصبح آمنًا.. وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري".
فلابد أن يتذكر الموت، فالموت لم يترك وليًّا صالحًا ولا نبيًّا من الأنبياء، ولا رسولاً من أولي العزم من الرسل، ولا ملكًا من الملوك، ولا ثريًّا من ذوي الكنوز، هارون الرشيد اختار كفنه الذي يدفن فيه، وكان يقول (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ)، وابنه المأمون كان على فراش الموت، ويقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه، (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ) (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ).
ذكر الآخرة وما فيها من أهوال وما فيها من جنة أو نار،
قطعًا، ذكر الآخرة مهم ويبدأ بالموت حقيقة، وكما روي عن سيدنا عثمان أنه قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "القبر أول منزل من منازل الآخرة، والموت أشد ما قبله وأهون ما بعده" ، فهو أشد ما كان في الدنيا، ولكن أهون بالنسبة للحشر والموقف التي تدنو فيه الشمس من الرءوس وبعض الناس يلجمهم العرق، ويصل إلى أفواههم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى إن كثيرًا من الناس يتمنون الانصراف من الموقف ولو إلى النار، من شدة ما يلقون من الأهوال إلا من خصهم الله مثل السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله.
فيوم القيامة يوم عظيم، (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)، (أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ) ولذلك فالإنسان يجب أن يكون دائمًا متذكرًا للآخرة، وأهوال الآخرة، والآخرة فيها موازين، وتنشر فيها الدواوين (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)، (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، (ووُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) .
** نود أن تجمل لنا الحديث عن ثمرات التوبة، والفائدة التي تعود على الإنسان إذا تاب؟
إنها ثمرات عظيمة وطيبة، ثمرات في الدنيا وثمرات في الآخرة، وأول ما يجني الإنسان ثمرة التوبة يجنيها في حياته، وليس هناك أفضل من أن الإنسان يرجع إلى الله ـ عز وجل ـ أي الشعور بمعية الله ـ سبحانه وتعالى ـ ومحبته، وإنك تعيش مع الله وفي طاعته، وفي خدمة دينه، فهذا شعور عظيم تسكن إليه النفس، وبه يجد الإنسان السكينة النفسية والطمأنينة القلبية كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ) (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ).
وهذا هو الذي قال فيه البعض: "إننا لتمر علينا أوقات نقول لو كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه، لكانوا في عيش طيب"، لأنه يحلم بالجنة قبل أن يصل إليها، جنة السعادة الروحية والنفسية التي قال عنها إبراهيم بن أدهم: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف"، ولكن ربنا أكرمه بأن الملوك غافلون عن هذا، وتركوهم يتمتعون بهذه السعادة دون أن ينافسوهم فيها.
فأول ثمرات التوبة هي هذه الحياة الروحية الجديدة، التي يشعر الإنسان فيها أنه خلق خلقًا جديدًا، وأصبح شيئًا آخر؛ أصبح إنسانًا بعدما كان حيوانًا أو سبعًا مفترسًا، يؤذي الناس بشره، أو مهمته يأكل ويشرب ولا شيء بعد ذلك، فهذا مكسب عظيم.
فرحة الله بالتائب
** الأحاديث النبوية تذكر أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يفرح بتوبة عبده المؤمن، فهل هذه تعد ثمرة؟
طبعًا، من ثمرات التوبة محبة الله ـ عز وجل ـ والله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ) فالإنسان يحب أن يكون محبوبًا عند الناس، محبوبًا عند الرؤساء، محبوبًا عند مشايخهم، محبوبًا عند أقاربه، فكيف إذا كان محبوبًا عند الله ـ سبحانه وتعالى، وهو يقول في الحديث القدسي: "لا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها" وكذلك يقول "ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه".فهو بالتوبة ينال حب الله سبحانه وتعالى، وبالتوبة ينال فرح الله بعباده، والله سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يرجعوا إليه، ويفرح إذا رجع أحدهم إليه فرحة من وجد ضالته بعد أن فقدها، وفي الحديث المعروف الذي يصور لنا فرح الله بعبده: إنسان في برية وضاعت منه ناقته، وظل يبحث عنها إلى أن يئس، ولا يستطيع أن يتحرك في البرية إلا بركوبته، فرجع لمكانه ووضع يده لينام عليها ليموت في هذا المكان، ثم استيقظ من النوم ليجد ناقته أمامه، فكم تكون فرحته؟ يقول لك ربنا أنا أفرح بتوبة العبد العاصي، ورجوعه إلي أكثر من صاحب هذه الناقة التي وجدها بعد أن يئس منها.
** تذكرون أن الإنسان له عدو دائم من خارجه وعدو من داخله، وبالتوبة ينتصر الإنسان على العدو الخارجي والعدو الداخلي، كيف ذلك ؟
الإنسان إذا وقع في المعصية انهزم أمام عدوه؛ أمام نفسه الأمارة بالسوء من ناحية، وأمام الشيطان الذي يريد أن يضله ويهديه إلى عذاب السعير، والذي أقسم كما ذكرت في بعض كلامي ليضللن الإنسان وليقفن له من يمين وشمال ومن بين يديه ومن خلفه، حتى يغويه ويضله عن طريق الله ـ عز وجل ـ فحينما يقع في المعصية، انتصر عليه شيطانه، وحينما يعود إلى الله ـ عز وجل ـ ينتصر الإنسان على الحيوان وعلى الشيطان، ولذلك الشيطان كلما آبى إنسان إلى ربه وقرع بابه للتوبة، وقال (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ) فإنه ـ أي الشيطان ـ يذوب كما يذوب الملح في الماء، وهو يقول: يا رب ما زلت أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، والله تعالى يقول: وأنا ما زلت أغفر لبني آدم ما استغفروني ما دامت أرواحهم في أجسادهم، وفي الحديث القدسي "يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم" و"يبسط الله يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها". وهذه من علامات الساعة الكبرى.
د/ القرضاوى
إن تأخير التوبة يؤدي لتمكين الذنب والمعاصي من القلب، وأن تأخيرها يعد ذنبًا جديدًا، وأن للتوبة موانع، من أخطرها التسويف وطول الأمل
و إن من موانع التوبة أيضا الاستهانة بالذنوب واستصغارها، والاتكال على أماني العفو، واستحكام الذنوب في قلب العاصي، بحيث تسد عليه أبواب الرجاء والأمل، بالإضافة إلى الاحتجاج بالقدر، فنحن نؤمن بالقدر لكن لا نحتج به لأن ذلك من فعل المشركين.
و إن للتوبة دوافع، منها معرفة مقام الله عز وجل، وذكر الموت، وذكر الآخرة، كما أن لها ثمرات، إذ تجعل الإنسان يشعر بأنه في معية الله سبحانه وتعالى كما تشعره بمحبة الله له، فضلا عن أنها تنقله إلى حياة روحية جديدة، يؤكد بها انتصار آدميته على الحيوان الكامن في داخله.
فالتوبة فريضة على كل من أذنب، ولذلك قال تعالى (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ومعناها أنه لابد من التوبة، لكن هل التوبة على الفور أم يمكن تأخيرها؟ التوبة على الفور، وتأخيرها معصية أخرى، وكلما أخر الإنسان التوبة، تمكنت الذنوب والمعاصي من قلبه؛ لأن الإنسان كما جاء في الأحاديث: "إذا أذنب ذنباً كانت نقطة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر ثقل منها"، فإذا لم يتب وأذنب ذنبًا آخر، أصبحت النقطة السوداء نقطتين، حتى يمتلئ قلبه بالسواد، وهذا ما ذكره الله في قوله (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
ولذلك كانت التوبة على الفور فريضة؛ فالتسويف من أخطر الأشياء على الإنسان في طريقه إلى الله، ولذلك السلف قالوا: "سوف" جند من جنود إبليس، فمن الوسائل التي يستخدمها إبليس في إبعاد العباد عن ساحة الله ـ عز وجل ـ يقول له: تب غدًا أنت ما زلت صغيرًا في العشرين، انتظر حتى يصير عمرك ثلاثين، وهكذا تمضي الثلاثون والأربعون والسبعون، وهو يسوف،
للتوبة موانع منها:
المانع الاول طول الأمل.
التسويف مانع خطير جدًّا؛ لأنه لا أحد يضمن متى يموت، فالصحيح يمرض، وصاحب الأمور الميسرة قد تحدث له عوائق (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً) ولذلك يجب أن يتصف الإنسان بالحزم، فيبادر إلى الطاعات، وإذا وقع في المعصية يبادر بمحو هذه المعصية "اتبع السيئة الحسنة تمحها" فيبادر بالتوبة، وإلا وقع في الخطر، ونعبر عن هذا المانع بـ "التسويف" أو بـ "طول الأمل"، والأمل مطلوب، والإنسان لابد أن يكون عنده أمل، والأمل الذي به تعمر الحياة، ويتقدم المجتمع ويتطور الناس، لا مانع منه، إنما الخطر في طول الأمل، وأن يستبعد الإنسان الموت، وهو ليس بعيدًا عن أحد:
كل امرئ مصبحًا في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وفي عصرنا رأينا أسباب الموت كثيرة، فالحضارة لها ثمن، وانظر إلى حوادث السيارات، والقطارات، والبواخر، والله تعالى يقول: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ البَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)
ماذا عن باقي موانع التوبة؟
الاستهانة بالذنوب
المانع الثاني
هو الاستهانة بالذنوب، كما جاء في حديث ابن مسعود في البخاري "المؤمن يرى ذنبه كالجبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا وهكذا" أي أطاره بيده وانتهى الأمر. والمؤمن دائمًا يخاف من ذنوبه، والمنافق يستصغر الذنوب، والإنسان الغافل لا يهتم بالذنوب، وأحد الصالحين يقول: لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى كبرياء من عصيت، أنت عصيت ربًا عظيمًا، القرآن يشير إلى هذا الأمر حينما تحدث بعض المسلمين عن حديث الإفك (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)
استصغار المعاصي أمر خطير، ومن ذلك ما ذكرته في حلقة سابقة من أن إنسانًا يقول لك: القبلة من الصغائر، لكنها مهما كانت من الصغائر فهي حرام، واستهانتك بها تجعلها كبيرة، وقد ذهب بعض الصالحين لزيارة أحد العلماء فوجدوه في مرض الموت ويبكي بكاءً مرًّا، فقالوا له أنت تبكي، وأنت الذي طالما صليت، وطالما زكيت، وطالما صمت، وطالما اعتمرت، وطالما علمت، وطالما أمرت بالمعروف ونهيت عن منكر، فقال لهم: لا أبكي من أجل هذا، ولكني أخشى أن أكون قد أتيت ذنبًا أحسبه هينًا وهو عند الله عظيم.
** لعل هذا هو الذي جعل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يذهب إلى حذيفة ويستحلفه بالله هل ذكره له النبي من المنافقين أم لا؟
نعم؛ لأن دائمًا العلماء قالوا: ما خشي النفاق إلا مؤمن ولا آمنه إلا منافق، فالمنافق آمن على نفسه، إنما المؤمن يخشى أن يكون داخلاً في المنافقين وهو لا يدري، ويقول بعضهم أدركت كذا وكذا من الصحابة والتابعين كلهم يخشى النفاق على نفسه، وعمر يقول لحذيفة هل سماني رسول الله لك، أي قال لك إني واحد منهم، فيقول له: لا، ولا أزكي أحد بعدك، أي لن أفتح الباب لكل إنسان كي يأتي ويسألني، وعمر أيضا هو الذي قال: لو نادى منادٍ يوم القيامة: كل الناس في الجنة إلا واحدًا، لخفت أن أكون ذلك الواحد، ولو ناد المنادي: كل الناس في النار إلا واحدًا: لرجوت أن أكون ذلك الواحد، فالخوف والرجاء يعدلان كفة الميزان معًا.
وكثير من الناس يقول: يا ليت كل الذنوب مثل هذه، وهذا خطير جدًّا، فلابد على المسلم أن يستكبر المعصية في نفسه؛ لأنه عصى ربًا عظيمًا.
** فماذا عن المانع الثالث؟
المانع الثالث
هو الاتكال على أماني العفو، وأن يقول الله غفور رحيم، ورحمته وسعت كل شيء، ونحسن الظن بالله تعالى، وكما قال الحسن البصري: كذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العلم، فالله غفور رحيم لكنه كما قال (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ)، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ) (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ)
فالمفروض أن نعطي كلاً من الجانبين حقه، بحيث يتوازن الخوف والرجاء في نفس الإنسان المسلم، فلا يبلغ به الرجاء إلى درجة الأمن من مكر الله، (فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ) ولا يبلغ به الخوف إلى درجة اليأس من روح الله (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ) وإنما يكون كما وصف الله بعض عباده (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) و(أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) و(وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا).
** وماذا عن المانع الرابع؟
المانع الرابع
استحكام الذنوب
هو استحكام الذنوب في قلب العاصي، بحيث تسد عليه باب الأمل والرجاء، فييأس من رحمة الله، ويقول: لا فائدة.. أنا ذاهب إلى جهنم مباشرة، وهذا خطأ كبير جدًّا، فليس هناك ذنب يستعصي على عفو الله، ومهما كبر الذنب فإن عفو الله أعظم منه، ورحمة الله أوسع منه، والله تعالى يقول في كتابه (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) فهم مذنبون ومسرفون على أنفسهم بمعاصي الله، لكنه يقول (قُلْ يَا عِبَادِيَ) أي لم يحرمهم من شرف العبودية لله والانتساب إلى الله، فكل الذنوب تمحى بالتوبة حتى الشرك (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ)، الإمام حسن البصري قرأ في سورة البروج قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ) فهم شقوا الأخاديد ووضعوا فيها النار، وحرقوا فيها المؤمنين، والقرآن مع ذلك فتح لهم الباب ليتوبوا، ثم لم يتوبوا، فهل هناك أكثر من هذا؟ فليس هناك ذنب يستعصي على التوبة، وعندنا في صحيح البخاري قصة الرجل قاتل التسعة وتسعين نفسًا، وعندما ذهب إلى أحد الرهبان قال له: اذهب أنت ليست لك توبة، فقال له: أنا ليس لي توبة سأكمل بك المائة، فاليأس يجعل الإنسان يفعل ما يشاء، وعندما ذهب إلى عالم لم يغلق في وجهه باب التوبة، وقال له انتقل فقط من قرية طالحة إلى قرية صالحة.
المانع الخامس
فهو الاحتجاج بالقدر، وبعض الناس يقول: ربنا كتب عليّ هذا.
** لكن هذه حقيقة، فربنا مقدر هذا فعلاً؟
نعم، لكن لا يجوز الاحتجاج بالقدر، فنحن نرضى بالقدر، ونؤمن به، لكن لا نجعله حجة لنا، وأهل الشرك هم الذين فعلوا ذلك، حيث قالوا (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا) فكيف عرفت أن ربنا كتب عليك هذا؟ وإن كنت عرفت هذا فيما مضى بحكم الوقوع، فكيف عرفت في القادم إن ربنا كتب لك الطاعة أو المعصية؟
أنت تأخذ بالأمر ولا تأخذ بالقدر، حتى الإنسان إذا وقع في شيء لا يصح أن يقول: يا رب أنت قدرت علي هذا، وجاء في بعض الآثار أن أحدهم حينما أراد أن يستغفر قال يا رب أنت قضيت أنت قدرت، أنت حكمت، فقال الله تعالى: هذا حق الربوبية، فأين أدب العبودية، قال: يا رب أنا أذنبت، أنا أخطأت، أنا عصيت، فقال: أنا غفرت، وأنا عفوت.
فهذا شأن الإنسان المؤمن يتأدب بأدب العبودية، ولا ينسب المعصية إلى الله ـ عز وجل ـ وتحدث القرآن عمن يستغفرون (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) فهم اتهموا أنفسهم، ولم يقولوا إن ربنا هو الذي فعل بنا، لكنهم قالوا: نحن الذين قصرنا فجرى علينا ما جرى.
** الناس تختلف وتنافس، وبعضهم أحيانًا إذا رأى الطرف الآخر وقع في معصية ما، يفرح بهذه المعصية، فما تعليقاكم؟
هذا شيء مذموم جدًّا؛ لأن المؤمن دائمًا يفرح بطاعة الله، وكلما وجد إنسانًا وفق إلى خير يقول الحمد لله، واللهم كثر المؤمنين، وإذا وجد إنسانًا وقع في شر أو خطيئة يحزن من أجل هذا، ويسأل الله أن يتوب عليه، لكن إذا كان يهمه أن أعداءه تكثر خطاياهم، فهذا ليس من الإيمان في شيء، إنما هو من التعصب الأعمى، فلذلك أهل الإخلاص يتمنون أن كل الناس تتوب إلى الله وتهتدي إلى الحق، خصومهم قبل أنصارهم.
** هذا الأمر قد يحدث أحيانًا بين العلماء أو الدعاة؟
يمكن هذا، وهم قالوا إن العلماء يدخلون النار بالحسد، فهناك بعض الناس تدخل النار بالكذب، وأناس تدخل بالغش، إنما العلماء بالتحاسد فيما بينهم وبين بعض، ونسأل الله العافية من هذه الأجواء والأمراض.
الدوافع، التي تجعل قلب الإنسان يتحرك ويلجأ إلى ربه ويعود سريعًا إذا أذنب
أول دافع
أن يعرف مقام الله عز وجل، وأن الله سبحانه وتعالى جدير بأن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، فنعمه تعالى تغمره من قرنه إلى قدمه (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا)، (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)، فكيف يقابل الإحسان بالإساءة، ويقابل النعم بالكفران، وكما جاء في بعض الآثار الإلهية "إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، فيتباغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي" فالإنسان إذا عرف هذا يسرع إلى طاعة الله ويسرع إلى التوبة كلما وقع في معصية.
** لكن هذه الدرجة لا يصل إليها إلا الصالحون أو من أنعم الله ـ عز وجل ـ عليهم بهذا الأمر؟
نعم، لكن أصلها مركوز في الفطرة، ولذلك تجد كثيرًا من الناس من العصاة، إذا وفق إلى إنسان يقول له: أنت يا أخي مسلم، تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، كيف تقام الصلاة أمامك، وتسمع الأذان، وتجد الناس من حولك يصلون وأنت تأبى أن تركع لله ركعة، وتأبى أن تعفر جبهتك لله، وأنت كلك من الله، وكلك إلى الله، ربما إذا وجد هذا عرف مقام الله ـ سبحانه وتعالى ـ فسارع إلى التوبة، فهو يحتاج إلى نفحة إلهية، توقظه من غفلته وتذكره من نسيانه.
الدافع الثاني إلى تعجيل التوبة
ذكر الموت وزيارة المقابر
** لكن ذكر الموت قد يؤدي إلى اليأس؟
نحن لا نريده أن يظل أربعًا وعشرين ساعة يذكر الموت، فقط نريده أن يخلو إلى نفسه، وينزع نفسه من هذه الدنيا لحظات يذكر فيها الموت، "اذكروا هاذم اللذات"، فهذا شيء مهم جدًّا؛ وإذا كان يعيش في النعيم فلا يدع نفسه يغرق في النعيم، وينسى أنه ميت لا محالة، "عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنه مجزي به"، فلابد أن يكون الموت على باله، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ) ولا يستبعده، فذلك الذي سميناه طول الأمل، و"تزود من التقوى فإنك لا تدري.. إذا جن ليلاً هل تعيش إلى الفجر.. فكم من سليم مات من غير علة.. وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر.. وكم من فتى يمسي ويصبح آمنًا.. وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري".
فلابد أن يتذكر الموت، فالموت لم يترك وليًّا صالحًا ولا نبيًّا من الأنبياء، ولا رسولاً من أولي العزم من الرسل، ولا ملكًا من الملوك، ولا ثريًّا من ذوي الكنوز، هارون الرشيد اختار كفنه الذي يدفن فيه، وكان يقول (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ)، وابنه المأمون كان على فراش الموت، ويقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه، (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ) (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ).
ذكر الآخرة وما فيها من أهوال وما فيها من جنة أو نار،
قطعًا، ذكر الآخرة مهم ويبدأ بالموت حقيقة، وكما روي عن سيدنا عثمان أنه قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "القبر أول منزل من منازل الآخرة، والموت أشد ما قبله وأهون ما بعده" ، فهو أشد ما كان في الدنيا، ولكن أهون بالنسبة للحشر والموقف التي تدنو فيه الشمس من الرءوس وبعض الناس يلجمهم العرق، ويصل إلى أفواههم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى إن كثيرًا من الناس يتمنون الانصراف من الموقف ولو إلى النار، من شدة ما يلقون من الأهوال إلا من خصهم الله مثل السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله.
فيوم القيامة يوم عظيم، (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)، (أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ) ولذلك فالإنسان يجب أن يكون دائمًا متذكرًا للآخرة، وأهوال الآخرة، والآخرة فيها موازين، وتنشر فيها الدواوين (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)، (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، (ووُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) .
** نود أن تجمل لنا الحديث عن ثمرات التوبة، والفائدة التي تعود على الإنسان إذا تاب؟
إنها ثمرات عظيمة وطيبة، ثمرات في الدنيا وثمرات في الآخرة، وأول ما يجني الإنسان ثمرة التوبة يجنيها في حياته، وليس هناك أفضل من أن الإنسان يرجع إلى الله ـ عز وجل ـ أي الشعور بمعية الله ـ سبحانه وتعالى ـ ومحبته، وإنك تعيش مع الله وفي طاعته، وفي خدمة دينه، فهذا شعور عظيم تسكن إليه النفس، وبه يجد الإنسان السكينة النفسية والطمأنينة القلبية كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ) (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ).
وهذا هو الذي قال فيه البعض: "إننا لتمر علينا أوقات نقول لو كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه، لكانوا في عيش طيب"، لأنه يحلم بالجنة قبل أن يصل إليها، جنة السعادة الروحية والنفسية التي قال عنها إبراهيم بن أدهم: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف"، ولكن ربنا أكرمه بأن الملوك غافلون عن هذا، وتركوهم يتمتعون بهذه السعادة دون أن ينافسوهم فيها.
فأول ثمرات التوبة هي هذه الحياة الروحية الجديدة، التي يشعر الإنسان فيها أنه خلق خلقًا جديدًا، وأصبح شيئًا آخر؛ أصبح إنسانًا بعدما كان حيوانًا أو سبعًا مفترسًا، يؤذي الناس بشره، أو مهمته يأكل ويشرب ولا شيء بعد ذلك، فهذا مكسب عظيم.
فرحة الله بالتائب
** الأحاديث النبوية تذكر أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يفرح بتوبة عبده المؤمن، فهل هذه تعد ثمرة؟
طبعًا، من ثمرات التوبة محبة الله ـ عز وجل ـ والله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ) فالإنسان يحب أن يكون محبوبًا عند الناس، محبوبًا عند الرؤساء، محبوبًا عند مشايخهم، محبوبًا عند أقاربه، فكيف إذا كان محبوبًا عند الله ـ سبحانه وتعالى، وهو يقول في الحديث القدسي: "لا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها" وكذلك يقول "ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه".فهو بالتوبة ينال حب الله سبحانه وتعالى، وبالتوبة ينال فرح الله بعباده، والله سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يرجعوا إليه، ويفرح إذا رجع أحدهم إليه فرحة من وجد ضالته بعد أن فقدها، وفي الحديث المعروف الذي يصور لنا فرح الله بعبده: إنسان في برية وضاعت منه ناقته، وظل يبحث عنها إلى أن يئس، ولا يستطيع أن يتحرك في البرية إلا بركوبته، فرجع لمكانه ووضع يده لينام عليها ليموت في هذا المكان، ثم استيقظ من النوم ليجد ناقته أمامه، فكم تكون فرحته؟ يقول لك ربنا أنا أفرح بتوبة العبد العاصي، ورجوعه إلي أكثر من صاحب هذه الناقة التي وجدها بعد أن يئس منها.
** تذكرون أن الإنسان له عدو دائم من خارجه وعدو من داخله، وبالتوبة ينتصر الإنسان على العدو الخارجي والعدو الداخلي، كيف ذلك ؟
الإنسان إذا وقع في المعصية انهزم أمام عدوه؛ أمام نفسه الأمارة بالسوء من ناحية، وأمام الشيطان الذي يريد أن يضله ويهديه إلى عذاب السعير، والذي أقسم كما ذكرت في بعض كلامي ليضللن الإنسان وليقفن له من يمين وشمال ومن بين يديه ومن خلفه، حتى يغويه ويضله عن طريق الله ـ عز وجل ـ فحينما يقع في المعصية، انتصر عليه شيطانه، وحينما يعود إلى الله ـ عز وجل ـ ينتصر الإنسان على الحيوان وعلى الشيطان، ولذلك الشيطان كلما آبى إنسان إلى ربه وقرع بابه للتوبة، وقال (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ) فإنه ـ أي الشيطان ـ يذوب كما يذوب الملح في الماء، وهو يقول: يا رب ما زلت أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، والله تعالى يقول: وأنا ما زلت أغفر لبني آدم ما استغفروني ما دامت أرواحهم في أجسادهم، وفي الحديث القدسي "يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم" و"يبسط الله يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها". وهذه من علامات الساعة الكبرى.
د/ القرضاوى