لزوم التقوى وإصلاح القلوب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • لزوم التقوى وإصلاح القلوب

    الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين .

    يقول الله تعالى { اتقوا الله حق تقاته }.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" [رواه أحمد وقال البيهقي في مجمع الزوائد رجاله رجال الصحيح، ورواه البزار بلفظ "مكارم الأخلاق"].

    أخي الحبيب:

    الواجب على العاقل أن يعمل من أجل المصير الأخير – الدار الآخرة – التي من أجلها خلقه الله سبحانه وتعالى وأن يكون عالماً بكل ما أمره به الدين وما نهاه عنه ومطبقاً له في كل شؤون حياته ومتزوداً ومستعداً بالتقوى والأعمال الصالحة وأن يعمل في دنياه من أجل أخراه حتى تسجل له الحسنات وتمحى عنه السيئات.


    تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
    فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكاً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
    وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسامهم ظلمة القبر
    وكم من عروس زينوها لزوجها وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر
    وكم من صحيح مات من غير علّة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر


    أصل التقوى :

    وأصل التقوى الوقاية مما يكره، وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب عن التقوى فقال له: "أما سلكت طريقاً ذا شوك؟" قال: "بلى"، قال: "فما عملت؟" قال: "شمّرت واجتهدت"، قال: "فذاك التقوى".

    وأنشد ابن المعتز:


    خلّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التُّقى
    واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
    لا تحقرنّ صغيرة إن الجبال من الحصى


    وعن مالك بن دينار قال: "اتخذ طاعة الله تجارة، تأتك الأرباح من غير بضاعة".

    وقال أبو حاتم: "قُطب الطاعات للمرء في الدنيا: هو إصلاح السرائر، وترك إفساد الضمائر، والواجب على العاقل الاهتمام بإصلاح سريرته، والقيام بحراسة قلبه عند إقباله وإدباره وحركته وسكونه، لأن تكدر الأوقات، وتنقص اللذات، لا يكون إلا عند فساده."


    إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوتُ ولكن قل عليّ رقيبُ
    ولا تحسبن الله يغفلُ ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ
    ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب وأن غداً للناظرين قريبُ


    قال كعب: "والذي فلق البحر لبني إسرائيل، إني لأجد في التوراة مكتوباً: يا ابن آدم، اتق ربك، وصل رحمك، وبر والديك، يمدَّ لك في عمرك، وييسر لك يُسرك، ويُصرف عنك عُسرك."

    قال مالك بن دينار: "إن القلب إذا لم يكن فيه حُزن خرب كما يخرب البيت إذا لم يكن فيه ساكن، وإن قلوب الأبرار تغلي بأعمال البر، وإن قلوب الفجار تغلي بأعمال الفجور، والله يرى هُمومكم، فانظروا ما همومكم؟ رحمكم الله."

    وعن الحسن البصري قال: "إنكم وقوف ها هنا تنتظرون آجالكم، وعند الموت تلقون الخبر، فخذوا مما عندكم لما بعدكم."

    وقال أبو حاتم: الواجب على العاقل أن يأخذ مما عنده لما بعده، من التقوى والعمل الصالح بإصلاح السريرة، ونفي الفساد عن خلل الطاعات، عند إجابة القلب وإبائه، فإذا كان صحة السبيل في إقباله موجوداً أنقذه بأعضائه، وإن كان عدم وجوده موجوداً كبحه عنها، لأن بصفاء القلب تصفو الأعضاء.

    وأنشد المنتصر الأنصاري:


    وإن امرأً لم يصف لله قلبُه لفي وحشةٍ من كل نظرة ناظر
    وإن امرأً لم يرتحل ببضاعة إلى داره الأخرى فليس بتاجر
    وإن امرأ ابتاع دنيا بدينه لمنقلب منها بصفقة خاسر


    وذلك حاصل لمن زهد في التجارة مع الله سبحانه واستبدل الحصى بالدر، والنار بالجنة، والبوار بالقرار، وذلك هو المغبون الخاسر في الدنيا والآخرة كقوله تعالى (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين)، وهو كما قال الشاعر:


    نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقعُ
    فطوبى لعبد آثر الله ربه وجاد بدنياه لما يتوقعُ


    وعن خالد الرّبعي قال: "كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً، فأمره سيده أن يذبح شاةً فذبح شاة، فقال له: ائتني بأطيب مضغتين في الشاة، فآتاه باللسان والقلب، ثم مكث أياماً، فقال: اذبح شاة فذبح، فقال له: ألقِ أخبث مضغتين في الشاة، فألقى إليه اللسان والقلب، فقال له سيده: قلت لك حين ذبحت الشاة: ائتني بأطيب مضغتين في الشاة، فأتيتني باللسان والقلب، ثم قلت لك الآن حين ذبحت الشاة: ألقِ أخبث مضغتين في الشاة، فألقيت اللسان والقلب؟ فقال: إنه لا أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا."


    وما المرء إلا قلبه ولسانه إذا حصلت أخباره ومداخله
    إذا ما رداء المرء لم يك طاهراً فهيهات أن ينقمه بالماء غاسله
    وما كل من تخشى ينالك شره وما كل ما أملته أنت نائله


    نعم إن معقد الصلاح والطهارة في الباطن حيث القلب، وإن المظهر تبع للمخبر، فمن صحت سريرته صحت علانيته، وقد كنى عن الباطن بالثياب (الرداء) على لغة من جعله بمعنى القلب كقوله تعالى { وثيابك فطهر }.

    وينبغي على العاقل أن يطهر نفوس الناس، ويعلمهم العقيدة المطهرة لبواطنهم أولاً، ومنه قوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، لأن ما بالنفس هو معقد الصلاح والفلاح.

    قال أبو حاتم: "العاقل يفتش قلبه في ورود الأوقات، ويكبح نفسه عن جميع المزجورات، ويأخذ بالقيام في أنواع المأمورات، ولزوم الانتباه عند ورود الفترة في الحالات، ولا يكون المرء يشاهد ما قلنا دائماً، حتى يُوجد منه صحة التثبت في الأفعال."، وأنشد البسامي:


    وإذا بحثت عن التقى وجدته رجلاً يصدقُ قوله بفعال
    وإذا اتقى الله امرؤ وأطاعه فيداه بين مكارم ومعال
    وعلى التقى إذا تراسخ في التقى تاجان: تاج سكينة وجمال
    وإذا تناسب الرجلان فما أرى نسباً يكون كصالح الأعمال


    وعن عبد الله بن رومي البزاز عن أبيه قال: قلما دخلت على إسحاق بن أبي ربعي الرافقي إلا وهو يتمثل بهذا البيت:


    خيرٌ من المال والأيام مقبلة رجيبٌ نقيٌ من الآثام والدنس


    وعن أحمد بن موسى قال: وُجِدَ على خفِّ عطاء السلمي مكتوباً – وكان حائكاً -:


    ألا إنما التقوى هو العز والكرم وفخرك بالدنيا هو الذل والعدم
    وليس على عبدٍ تقيٍ نقيصةٌ إذا صحّح التقوى وإن حاك أو حجم


    قال الحسن: "أفضل العمل الورع والتفكر."

    قال أبو حاتم: "العاقل يدبرُ أحواله بصحة الورع، ويمضي أسبابه بلزوم التقوى، لأن ذلك أول شُعب العقل، وليس إليه سبيل إلا بصلاح القلب، ومثل قلب العاقل إذا لزم رعاية العقل، إن الله قضى ذلك وشاءه، كأن قلبه شرح بسكاكين التّقيّة، ثم مُلِّح بملح الخشية، ثم جُفف برياح العظمة، ثم أُحيي بماء القُربة، فلا يوجد فيه إلا ما يُرضي المولى جل وعلا، ولا يُبالي المرءُ إذا كان بهذا النعت أن يتضع عند الناس، ومحالٌ أن يكون ذلك أبداً."

    وعن محمد بن علي بن حسين قال: "إذا بلغ الرجل أربعين سنة، ناداه منادٍ من السماء: دنا الرحيل فأعدّ زاداً."

    وأنشد الأبرشي:


    إذا انتسب الناس كان التَّقي بتقواه أفضل من ينتسب
    ومن يتق الله يكسب به من الحظ أفضل ما يكتسب
    ومن يتخذ سبباً للنجاة فإن تُقى الله خير السبب


    وعن معن قال: قال عبد الله: "إن لهذه القلوب شهوة وإقبالاً، وإن لها فترة وإدباراً، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، ودَعُوها عند فترتها وإدبارها."

    قال أبو حاتم: "الواجب على العاقل أن لا ينسى تعاهد قلبه بترك ورود السبب الذي يورث القساوة له عليه، لأن بصلاح الملك تصلح الجنود، وبفساده تفسد الجنود، فإذا اهتم بإحدى الخصلتين تجنب أقربهما من هواه، وتوخى أبعدهما من الردى."


    وإذا تشاجر في فؤادك مرةً أمران فاعمد للأعفِّ الأجمل
    وإذا هممت بأمر سوء فاتَّئد وإذا هممت بأمر خير فافعل


    وعن عمر بن الخطاب قال: "جالسوا التوابين، فإنهم أرق أفئدة."

    وقال رجل للحسن: "يا أبا سعيد، كيف أنت، وكيف حالك؟ قال: كيف حال من أمسى وأصبح ينتظر الموت، ولا يدري ما يصنع به؟"


    تخير قريناً من فعالك وإنما يزين الفتى في القبر ما كان يفعل
    فإن كنت مشغولاً بشيء فلا تكن بغير الذي يرضى به الله تشغل
    فلابد بعد القبر من أن تعده ليوم ينادي المرء فيه فيسأل
    فلن يصحب الإنسان من قبل موته ولا بعده إلا الذي كان يعمل
    إلا إنما الإنسان ضيف لأهله يقيم قليلاً بينهم ثم يرتحل



    وبعد فيا إخوتي:

    صفّوا للمنعم قلوبكم، يكفيكم المؤن عند همكم، لو خدمت مخلوقاً فأطلت خدمته ألم يكن يرعى لخدمتك حُرمة؟ فكيف بمن ينعم عليك وأنت مسيء إلى نفسك تتقلب في نعمه وتتعرض لنقمه؟، هيهات هيهات همة البطالين، ليس لهذا خلقتم، ولا بهذا أمرتم، الكَيْس الكَيْس، رحمك الله.


    عليك بتقوى الله في كل أمره تجد غبه يوم الحساب المطول
    ألا إن تقوى الله خير مغبة وأفضل زاد الظاعن المترحل


    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
يعمل...
X