عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً فحدّثته، ثم قمتُ فانقلبت، فقام معي ليقلبني -وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما-، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي -صلى الله عليه وسلم- أسرعا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( على رسلكما، إنها صفية بنت حيي ) ، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!، فقال: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يَقذف في قلوبكما سوءا -أو قال شيئا- ) ". متفق عليه، واللفظ للبخاري .
معاني المفردات
فقام معي ليقلبني: أي ليرجعني إلى داري
على رسلكما: عليكم بالأناة ولا تعجلا.
إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم: جعل بعض العلماء اللفظ على ظاهره، وأن الله تعالى جعل للشيطان قوة وقدرة على الجري في باطن الانسان مجاري دمه، وقيل: هو على الاستعارة لكثرة إغوائه ووسوسته، فكأنه لايفارق الانسان كما لايفارقه دمه، والمعنى الأوّل أقرب للصواب.
تفاصيل الموقف
لم يكن النبي –صلى الله عليه وسلم- في شهرٍ من الشهور أكثر إقبالاً على الطاعة، ولا جوداً بالخير، ولا تفيّؤاً في ظلال الذكر، من شهر رمضان، وكيف لا يكون حاله كذلك وهو شهر تفتّح فيه أبواب الجنّة؟ وتغلق فيه أبواب النار؟ ويكثر فيه العتقاء من النار؟
ولتحقيق هذه المكاسب الأخرويّة اختار النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يعتكف في مسجده، في عزلةٍ شعوريّةٍ تمنحه تفرّغاً أكبر للعبادة والمناجاة والاستغراق فيهما، في ضيافة بيت من بيوت الله عزّ وجل.
وهذا الانقطاع التعبّدي الذي كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقوم به، ليس من جنس الرهبانيّة الأولى، التي ابتدعها أهل الكتاب من عند أنفسهم، ولكنّه تخفّف من الدنيا وملهياتها، تخفّف لا يحرّم الكلام أو يمنع المباح، ولكن يُعطي مجالاً للحديث مع الآخرين في شؤون دينهم ودنياهم، ولذلك كانت زوجاته عليه الصلاة والسلام يقمنَ بزيارته في معتكفه بين الحين والآخر.
ومن بين تلك الزيارات: قدوم صفيّة بنت حيّي رضي الله عنها إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- في المسجد لتحدّثه حول بعض شؤونها، فكان أن لبّى النبي عليه الصلاة والسلام حاجتها إلى الحديث ورغبتها في الزيارة ولم يعاجلها حتى أوغل الليل واشتدّت ظلمته.
ولليل رهبته وللظلام وحشته مهما كانت رباطة الجأش وقوّة القلب، خصوصاً إذا ما تعلّق الأمر بالنساء ورقّتهنّ، ما جعل النبي –صلى الله عليه وسلم- يقرّر أن يرافق زوجته في طريق العودة حتى لا يساورها الخوف أو يخالجها الفزع، فخرج عليه الصلاة والسلام معها حتى يوصلها إلى البيت الذي تسكن فيه، وهي دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
في هذه الأثناء كان هناك رجلان من الصحابة يمرّان بالطريق الذي قصده الرسول–صلى الله عليه وسلم – و صفيّة ، فأبصرا النبي عليه الصلاة والسلام ومعه امرأة متّشحة بالسواد، فاستحيا وأسرعا مبتعدين، ولم يدر في تفكيرهما أي خاطر من أي نوع.
لكن النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو طبيب القلوب، والعالم بمكائد الشيطان وحبائله، خشي من الوسواس الخنّاس أن يزرع في قلوبهما ريبةً أو شكّاً، أو أن يمور في نفوسهما شيء من ذلك –ولو كان خاطراً عابراً -، وسوء الظنّ بالأنبياء كفر.
وقطعاً لدابر الفكرة بادر النبي –صلى الله عليه وسلم – بقوله : ( على رسلكما، إنها صفية بنت حيي ) ، وفي رواية : ( تعاليا، إنها صفية بنت حيي ) .
تملك الذهول الرجلين، وهتفا على الفور : " سبحان الله! "، تنزيهاً لله أن يقع نبيّه في ما يشين وهو الطاهر المطهّر، ونفياً قاطعاً أن يكون قد خطر على البال من أمثال تلك الواردات السيئة والظنون الرّديئة.
ولكن الدرس الذي أراد النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يعلّمه أصحابه عن طبيعة عدوّهم، اللصيق بهم أينما كانوا وحيثما حلّوا: ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ) .
إضاءات حول الموقف
شعار هذا الموقف النبوي العظيم هو الاستبراء للعرض وعدم الوقوف في مواقف الريبة؛ حتى يقطع دابر الفتنة، ويحمي المسلم سمعته أن تلحق بها تهمة؛ ذلك أن الخواطر تبدأ فكرةً، ثم لا يلبث اللسان أن يبوح بها لقريب أو صديق، ومع مرور الوقت تتناقل الألسنة قالة السوء، ليوصم صاحبها بما هو بريء منه ولا حيلة له في دفعه، فتضيع الثقة وتشوّه السمعة.
يقول الإمام الخطابي : " في هذا الحديث من العلم استحباب أن يحذر الإنسان من كل أمر من المكروه مما تجري به الظنون ، ويخطر بالقلوب ، وأن يطلب السلامة من الناس بإظهار البراءَة من الريب " .
ولهذا البعد الأخلاقي أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بالتفرقة بين عقبة بن الحارث رضي الله عنه وزوجه عندما ادّعت عجوز أنها قامت بإرضاعهما معاً، وبالتالي فهما أخوان من الرضاعة، وعندما قال عقبة رضي الله عنه للنبي عليه الصلاة والسلام : "يا رسول الله، ما صدقت "، فكان جوابه عليه الصلاة والسلام : ( كيف وقد قيل؟ ) رواه البخاري .
ومما نستشرفه من معاني هذه القصّة: شفقة النبي -صلى الله عليه و سلم- على أمته وصيانته لقلوب أتباعه وأفكارهم، وجواز زيارة المرأة لزوجها المعتكف في أي ساعة من ليل أو نهار على أن يكون بالقدر المعقول الذي لا يجرّ إلى إفساد الاعتكاف، كما أن في القصّة جواز التسبيح تعظيما للشيء وتعجبا منه، وشواهد ذلك كثيرةٌ في الكتاب والسنّة.
معاني المفردات
فقام معي ليقلبني: أي ليرجعني إلى داري
على رسلكما: عليكم بالأناة ولا تعجلا.
إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم: جعل بعض العلماء اللفظ على ظاهره، وأن الله تعالى جعل للشيطان قوة وقدرة على الجري في باطن الانسان مجاري دمه، وقيل: هو على الاستعارة لكثرة إغوائه ووسوسته، فكأنه لايفارق الانسان كما لايفارقه دمه، والمعنى الأوّل أقرب للصواب.
تفاصيل الموقف
لم يكن النبي –صلى الله عليه وسلم- في شهرٍ من الشهور أكثر إقبالاً على الطاعة، ولا جوداً بالخير، ولا تفيّؤاً في ظلال الذكر، من شهر رمضان، وكيف لا يكون حاله كذلك وهو شهر تفتّح فيه أبواب الجنّة؟ وتغلق فيه أبواب النار؟ ويكثر فيه العتقاء من النار؟
ولتحقيق هذه المكاسب الأخرويّة اختار النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يعتكف في مسجده، في عزلةٍ شعوريّةٍ تمنحه تفرّغاً أكبر للعبادة والمناجاة والاستغراق فيهما، في ضيافة بيت من بيوت الله عزّ وجل.
وهذا الانقطاع التعبّدي الذي كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقوم به، ليس من جنس الرهبانيّة الأولى، التي ابتدعها أهل الكتاب من عند أنفسهم، ولكنّه تخفّف من الدنيا وملهياتها، تخفّف لا يحرّم الكلام أو يمنع المباح، ولكن يُعطي مجالاً للحديث مع الآخرين في شؤون دينهم ودنياهم، ولذلك كانت زوجاته عليه الصلاة والسلام يقمنَ بزيارته في معتكفه بين الحين والآخر.
ومن بين تلك الزيارات: قدوم صفيّة بنت حيّي رضي الله عنها إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- في المسجد لتحدّثه حول بعض شؤونها، فكان أن لبّى النبي عليه الصلاة والسلام حاجتها إلى الحديث ورغبتها في الزيارة ولم يعاجلها حتى أوغل الليل واشتدّت ظلمته.
ولليل رهبته وللظلام وحشته مهما كانت رباطة الجأش وقوّة القلب، خصوصاً إذا ما تعلّق الأمر بالنساء ورقّتهنّ، ما جعل النبي –صلى الله عليه وسلم- يقرّر أن يرافق زوجته في طريق العودة حتى لا يساورها الخوف أو يخالجها الفزع، فخرج عليه الصلاة والسلام معها حتى يوصلها إلى البيت الذي تسكن فيه، وهي دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
في هذه الأثناء كان هناك رجلان من الصحابة يمرّان بالطريق الذي قصده الرسول–صلى الله عليه وسلم – و صفيّة ، فأبصرا النبي عليه الصلاة والسلام ومعه امرأة متّشحة بالسواد، فاستحيا وأسرعا مبتعدين، ولم يدر في تفكيرهما أي خاطر من أي نوع.
لكن النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو طبيب القلوب، والعالم بمكائد الشيطان وحبائله، خشي من الوسواس الخنّاس أن يزرع في قلوبهما ريبةً أو شكّاً، أو أن يمور في نفوسهما شيء من ذلك –ولو كان خاطراً عابراً -، وسوء الظنّ بالأنبياء كفر.
وقطعاً لدابر الفكرة بادر النبي –صلى الله عليه وسلم – بقوله : ( على رسلكما، إنها صفية بنت حيي ) ، وفي رواية : ( تعاليا، إنها صفية بنت حيي ) .
تملك الذهول الرجلين، وهتفا على الفور : " سبحان الله! "، تنزيهاً لله أن يقع نبيّه في ما يشين وهو الطاهر المطهّر، ونفياً قاطعاً أن يكون قد خطر على البال من أمثال تلك الواردات السيئة والظنون الرّديئة.
ولكن الدرس الذي أراد النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يعلّمه أصحابه عن طبيعة عدوّهم، اللصيق بهم أينما كانوا وحيثما حلّوا: ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ) .
إضاءات حول الموقف
شعار هذا الموقف النبوي العظيم هو الاستبراء للعرض وعدم الوقوف في مواقف الريبة؛ حتى يقطع دابر الفتنة، ويحمي المسلم سمعته أن تلحق بها تهمة؛ ذلك أن الخواطر تبدأ فكرةً، ثم لا يلبث اللسان أن يبوح بها لقريب أو صديق، ومع مرور الوقت تتناقل الألسنة قالة السوء، ليوصم صاحبها بما هو بريء منه ولا حيلة له في دفعه، فتضيع الثقة وتشوّه السمعة.
يقول الإمام الخطابي : " في هذا الحديث من العلم استحباب أن يحذر الإنسان من كل أمر من المكروه مما تجري به الظنون ، ويخطر بالقلوب ، وأن يطلب السلامة من الناس بإظهار البراءَة من الريب " .
ولهذا البعد الأخلاقي أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بالتفرقة بين عقبة بن الحارث رضي الله عنه وزوجه عندما ادّعت عجوز أنها قامت بإرضاعهما معاً، وبالتالي فهما أخوان من الرضاعة، وعندما قال عقبة رضي الله عنه للنبي عليه الصلاة والسلام : "يا رسول الله، ما صدقت "، فكان جوابه عليه الصلاة والسلام : ( كيف وقد قيل؟ ) رواه البخاري .
ومما نستشرفه من معاني هذه القصّة: شفقة النبي -صلى الله عليه و سلم- على أمته وصيانته لقلوب أتباعه وأفكارهم، وجواز زيارة المرأة لزوجها المعتكف في أي ساعة من ليل أو نهار على أن يكون بالقدر المعقول الذي لا يجرّ إلى إفساد الاعتكاف، كما أن في القصّة جواز التسبيح تعظيما للشيء وتعجبا منه، وشواهد ذلك كثيرةٌ في الكتاب والسنّة.