يبدو أن ذلك كان بعد نزول آية الجلد في سورة النور، لأن آية الجلد تشمل عقوبة الزناة عامة, فلم يرد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذا الحكم كتابة حكم الرجم، ذلك لأن حكم الجلد جعل الرجم مقيدا وخاصا بظروف وشروط معينة ولم يعد الرجم عقوبة عامة للزنا، وإنما حل الجلد (مائة جلدة) محله.
ما هو المراد من أحاديث آية الرجم
ولا بد هنا من توضيح الروايات القائلة بأن آية الرجم أي (الشيخ والشيخة إذا....)، آية من سورة الأحزاب نسخت كتابتها وتلاوتها وبقي حكمها.
فأما فيما يتعلق بالنسخ في القرآن الكريم فليس في القرآن أي حكم منسوخ، وأما قول بعض الفقهاء بأن هناك آيات بقيت تلاوة ونُسخت حكما فهو قول مخالف للعقل والبرهان وحرمة القرآن الكريم مخالفة صريحة، إذ الاعتقاد بوجود النسخ في القرآن الكريم يؤدي إلى عدم الثقة به وعدم الاعتماد عليه، مع أن عظمة القرآن إنما هي في كونه صرحا مشيدا على أسس اليقين، والله الحفيظ بنفسه وعد وتولى حفظه. فكيف يحق لنا بعد ذلك أن نقبل في أحكامه وآياته، رأى بعض العلماء والفقهاء الذي لا يسانده إلا قياساتهم المريبة والمبهمة. فلا شك أنه اعتقاد خاطئ مضل بيِّن التضليل، ولا يمت إلى الإسلام بصلة.
هذا، ومن الروايات القائلة بكون (آية الرجم) آية قرآنية منسوخة التلاوة ما رواه الحاكم عن عاصم عن زر قال لي أبي بن كعب وكان يقرأ سورة الأحزاب، قال: قلت ثلاثا وسبعين آية قال: قط. قلت: قط؟ قال: لقد رأيتها وإنها لتعدل البقرة، ولقد قرأنا فيما قرأنا فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم.(المستدرك للحاكم كتاب الحدود المجلد4 ص 359)
والمراد من هذه الرواية لدى القائلين بالنسخ أن سورة الأحزاب التي تحتوي على 73 آية، كانت في البداية بحجم سورة البقرة أي 287 آية. فنسخت تلاوة الآيات الأخرى من سورة الأحزاب بما فيها آية الرجم أيضا.
ولكن الاستدلال على وجود النسخ في القرآن من هذه الرواية لا يصح بأية صورة مطلقا، خصوصا ونحن نستطيع حل هذه الرواية حلا جيدا، وذلك أن هؤلاء لم يفهموا قول أبيّ بن كعب (كنت رأيت سورة الأحزاب وهي لتعدل البقرة)، فهمًا سليما، إنما المراد من قوله هذا أن الأحزاب قديمة النـزول والبقرة طويلة النـزول، فقد امتد زمن نـزولها من السنة الثانية الهجرية إلى التاسعة. فيقول أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه لما كان نـزل من البقرة ما يساوي حجم الأحزاب (أي 73 آية) كانت الأحزاب قد اكتمل نـزولها. أما قوله: كنا نقرأ آية الرجم في الأحزاب فمعناه أن الآيات من 61 إلى 63 من الأحزاب كانت أسبق نـزولا أيضا من آية الجلد في سورة النور، وإن المسلمين قبل حكم الجلد كانوا يقرأون (آية الرجم التوراتية) كتفسير للآية (سنة الله في الذين خلوا من قبل....) من سورة الأحزاب، وكان نفس الحكم أي حكم الرجم رائجا رواجا عاما. ثم نـزل بعد ذلك حكم الجلد كقاعدة للزناة عامة، وبقي حكم الرجم خاصا بمن يتعودون على ارتكاب الزنا ويشيعونه ويروجونه.
والرواية الأخرى تقول إن عمر رضي الله عنه قال: إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَتَبْتُهَا (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ). (الموطأ للإمام مالك، كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم)
وقد سبق أن أوضحنا أن قول عمر رضي الله عنه إنما يعني أنه كان يريد كتابة آية الرجم التوراتية في هامش القرآن الكريم كتفسير لسنة الله المذكورة في قوله تعالى من سورة الأحزاب: (سنة الله في الذين خلوا من قبل)، وهذا هو الأقرب للقياس والعقل، لأنه رضي الله عنه لم يكن يعتبرها آية من القرآن الكريم، وعدم كتابة هذه الآية أيضا يؤيد رأينا.
أما فيما يتعلق بورود حدَّي الزنا في كتاب الله تعالى، فبعد ثبوت حكم الرجم من آيات سورة الأحزاب لم يبق أي تعارض بين هذه الرواية والقرآن الكريم، لأن وجود حدين مستقلين لحالتين مختلفتين للزنا ثابت من القرآن الكريم.
أما هذه الآية المزعومة التي يعدّونها من القرآن الكريم فإن اختلاف كلمات الروايات المتعددة الواردة في شأنها نفسَه يدل على أنها ليست آية قرآنية، بل هي ترجمة عربية لآية الرجم الواردة في التوراة من اللغة العبرية؛ حيث تقول إحدى الروايات: "الشيخ والشيخة فارجموهما البتة". (الموطأ للإمام مالك، كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم).
بينما تقول الأخرى: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالاً من الله".
وتقول الثالثة: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة" (المستدرك للحاكم، كتاب الحدود صفحة 359).
إذن فلا يمكن أن تكون هذه الكلمات المتضاربة وحيًا قرآنيًا.
الحكم بمائة جلدة
أما حكم الجلد الذي ورد في سورة النور والذي نزل بعد نزول عقوبة الزنا وإشاعته في سورة الأحزاب فهو قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بها رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابَهما طائفة من المؤمنين) (سورة النور: 3)
ولقد اختلف العلماء كثيرًا فيما إذا كان حكم هذه الآية عامًّا أم خاصًّا، فمعظمهم يذهبون إلى أنه خاص، وأن عقوبة "مائة جلدة" ليست إلا للزناة غير المتزوجين رجالاً ونساءً، وأن عقوبة المتزوجين منهم هي الرجم حسب السنة. وكأن السنة خصصت القرآن الكريم. غير أن العلماء والسلف الصالح قد سلموا بأن حكم الجلد حكم عام، يشمل جميع أنواع الزناة، مع استثناء تلك الحالات الخاصة التي خصصتها بعض الآيات القرآنية الأخرى التي تنص على الرجم كما ذكرنا سابقا، فيقول العلامة الرازي رحمه الله: "اتفقت الأمة على أن قوله سبحانه وتعالى (الزانية والزاني)، يفيد الحكم في كل الزناة، لكنهم اختلفوا في كيفية تلك الدلالة، فقال قائلون: لفظ الزاني يفيد العموم، والمختار إنه ليس كذلك".
ويقول العلامة محمود الآلوسي: "والحكم عام فيمن زنى وهو محصن وفي غيره."
(تفسير روح المعاني، سورة النور، الآية: الزاني والزانية فاجلدوهما)
ويقول العلامة ابن حيان: "و الحكم في الزانية والزاني للعموم في جميع الزناة." (البحر المحيط)
ويقول العلامة أبو الفرج الجوزي: "قال شيخنا علي بن عبيد الله: هذه الآية تقتضي وجوب الجلد على البكر والثيب." (تفسير الجوزي، سورة النور الآية:3)
حكم الجلد عام
وعلى الرغم من قولنا بالرجم في أحوال خاصة، وذلك بالإضافة إلى جلد مائة جلدة، إلا أننا نختلف مبدئيا مع القائلين بالرجم، فنرى أن حكم (آية الجلد) عام، وأن عقوبة الزنا في الأحوال العادية إنما هي مائة جلدة، وإنه ليس من المعقول تخصيصها بحجة أن بعض الزناة المتزوجين قد رجموا، فلذا إن العقوبة الواردة في سورة النور (وهي الجلد) ليست للزناة غير المتزوجين، وأما الزناة المتزوجون فعقوبتهم الرجم. فنحن لا نقبل ذلك لأنه يخالف تلك الآية القرآنية التي تذكر أن عقوبة الزانية الأمة المتزوجة نصف عقوبة الزانية الحرة المتزوجة، فيقول الله تعالى: (فإذا أحصِنَّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب....) (سورة النساء: 26)
فتبين هذه الآية أن العقوبة المحددة للزنا عقوبة يمكن تقسيمها إلى نصفين، وهي مائة جلدة ونصفها خمسون جلدة، في حين أن الرجم لا يمكن أن ينقسم إلى نصفين. إذن فالقول بأن عقوبة الرجم نسخت عقوبة الجلد لا يستلزم نسخ آية النور (آية الجلد) فحسب، بل أيضا يفسد معنى هذه الآية من النساء، إذن فالعقوبة العامة لجميع الزناة من الأحرار المحصنين وغير المحصنين، رجالا ونساء على سواء إنما هي مائة جلدة.
وبالمناسبة يجب ألا يفوتنا أن حد مائة جلدة هذه أيضا لا يقام بمجرد الشبهة، بل في حالة أن يتم الزنا علنا بحيث يشهد عليه أربعة شهود عيان عدول شهادة واضحة تماما، بأنهم رأوا بأعينهم فلانا وفلانة وهما يرتكبان هذا الفعل الشنيع، وأنهم لم يخططوا لمشاهدتهما مسبقا. فعندئذ بعد ثبوت جريمة الزنا تنفذ هذه العقوبة وهي مائة جلدة، وذلك منعا لهذه الفاحشة المبينة.
فقصارى القول إن الشروط المشددة التي وضعها الفقهاء في ضوء القرآن الكريم والسنة لا يمكن أن تتوفر بسهولة في كل قضية، اللهم إلا أن يتم الزنا علنًا.
وأرى من اللازم هنا أن أتناول الحديث عن السوط أو الجلد بشيء من الإيضاح. فأما فيما يتعلق بنوعية الجلد، فالجلد الذي يتم في بعض الدول التي تدعي بتطبيق الشريعة الإسلامية، حيث يضرب الجلاد المجرم بكل ما أعطي من قوة، وهو مقيد مكبل فليس هذا الأسلوب من الإسلام في شيء، بل إن لفظة (جلدة) نفسها تعني ضرب الجلد بحيث لا يؤثر فيما تحته، وتحدد نوعية عقوبة مائة جلدة، قد كتب المستر (لين) واضع القاموس العربي الإنجليزي الشهير في قاموسه تحت كلمة (جلدة): أي ضرَبَ أو آذى جِلده. إذن فيجب ضرب مائة جلدة بحيث يؤلم الجلد فقط ولا يؤثر كثيرا فيما تحت الجلد. حتى إن الفقهاء اشترطوا ألا يرفع الجلاد يده كثيرا أثناء الجلد لكيلا يكون الضرب شديدا.
وأما فيما يتعلق بالسوط، فالـمِجْلَد في اللغة هو ذلك السوط الذي تضرب به النساء وجوههن أثناء النياحة والندب. وقد ذكر أن السياط المستخدمة للعقوبة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين كانت عبارة عن سعف النخل أو النعل أو الجلد المغطى بالقماش. وهذا يؤكد أن هذه العقوبة لم تهدف إلى الإيذاء، بل كان هدفها الأساسي هو إصلاح المجرم بعقوبة تذلـله وتوقظ ضميره.
ويجب ألا يفوتنا أيضا أن حكم الرجم المشروط بشروط معينة وأحوال خاصة لم ينسخ بنـزول آية الجلد في سورة النور، بل ينفذ الرجم بلا شك كلما توفرت تلك الشروط. (أي كون الزناة متعودين على الزنا، وقيامهم بإفساد المجتمع بإشاعة الفاحشة وترويجها)
هذا، وإن هناك إشارة إلى تنفيذ هذه العقوبة المشددة على من يشيعون الفاحشة في آية أخرى وردت بعد آية الجلد في النور نفسها، ألا وهي: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) (سورة النور: 20)
وهناك فرق دقيق جدير بالانتباه وهو أنه عندما وردت عقوبة مائة جلدة في سورة النور ذكرت بكلمة العذاب فقط، حيث يقول الله عز وجل: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) (سورة النور:3)
والمراد من العذاب هنا هو عقوبة مائة جلدة. كما قد استخدمت كلمة العذاب في سورة النساء بمعنى مائة جلدة، فيقول الله تعالى: (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب). (سورة النساء: 26)
أي إن عقوبة ارتكاب الزنا للإماء المتزوجات هي نصف عقوبة المتزوجات الحرائر، (وهي مائة جلدة)، وكأن المراد من العذاب في هذه الآية هو مائة جلدة التي يمكن نصفها. ولكنه عندما ذكرت إشاعة الفاحشة في الآية التي نحن بصددها (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة ....) فلم يرد هنا كلمة العذاب فقط، بل (عذاب أليم)، أي عذاب مؤلم قاس جدا. والظاهر أن هذه العقوبة أي الرجم التي ينص عليها القرآن الكريم والسنة أشد وأقسى من مائة جلدة.
واقعات الرجم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
ونرى من الأنسب أن نوجز هنا واقعات الرجم التي وقعت في العهد النبوي صلى الله عليه وسلم وهي:
1: فاطمة العامرية من قبيلة جهينة زنت، واعترفت بحمل الزنا، فرجمت. (صحيح مسلم، كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا)
2: ماعز بن مالك الأسلمي اعترف بالزنا على الملأ مرة بعد أخرى، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم برجمه. وتذكر الرواية أيضا أن ماعزا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عند سؤاله أنه متزوج.
(صحيح البخاري، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب لا يرجم المجنون والمجنونة)
3: ونجد قصة الزنا بالجبر في رواية وائل بن حجر، وتقول الرواية: إن مجرما رُجم. (وسيأتي ذكر هذه القصة بالتفصيل بعنوان عقوبة الزنا بالجبر وذلك تحت آية المحاربة)
(الترمذي، كتاب الحدود باب ما جاء في المرأة إذا استكرهت على الزنا)
4: وهناك واقعة تذكر خادما زنى بامرأة سيده فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم برجم المرأة وجلد الخادم مائة جلدة وأجلاه مدة سنة. (صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا)
وقد اختلف العلماء في زمن هذه الواقعات، فالذين يقولون بأن عقوبة الزنا إنما هي مائة جلدة يرون أن كل هذه الواقعات كانت قبل نزول الحكم بالجلد في سورة النور، ويستدلون على ذلك بحديث عبد الله بن أوفى الذي سئل: هل رجم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل سورة النور فقط أم بعدها أيضا، فأجاب: لا أدري. (البخاري، كتاب المحاربين، باب رجم المحصن)
ولكن جوابه هذا لا يدل على أنه أنكر وقوع الرجم بعد سورة النور إنكارا قطعيا، وإنما يدل على اعترافه بعدم العلم.
أما القائلون بالرجم فيرون أن واقعات الرجم وقعت بعد سورة النور أيضا، وهذا هو الأصح، لأن حجة هؤلاء بأن زمن رواة واقعات الرجم كان فيما بعد نزول سورة النور لحجة قوية. وعلاوة على ذلك فإن الشهادة الداخلية لواقعات الرجم أيضا تؤيد موقفهم، إذ ورد في إحدى الواقعات المذكورة آنفا أن خادما زنا بامرأة سيده فجلد، أما المرأة فرجمت.
والظاهر أن هذا الجلد لم يكن إلا بعد سورة النور. ثم إن الرجم ثابت في زمن الخلفاء الراشدين أيضا. إذن فكل ذلك يدل على كون الرجم حكما مستقلا بذاته كما سبق أن أوضحنا ذلك في ضوء الآيات: 61 إلى 63 من سورة الأحزاب. فالأقرب إلى العقل والمنطق، في ضوء هذه الآيات، أن نقول في واقعات الرجم أنه إذا كان أحد المسلمين قد رجم قبل سورة النور أي حتى شهر شوال من السنة الخامسة الهجرية فكان ذلك بسبب عادة الرسول صلى الله عليه وسلم لموافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ولم ينـزل في شأنه أي حكم قرآني. (البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم)
وإن واقعات الرجم التي تمت بعد شهر شوال من السنة الهجرية الخامسة فكانت طبقا لما ورد في الآيات 61 إلى 63 في سورة الأحزاب.
فعقوبة الرجم التي نفذت في ضوء الآيات المذكورة آنفا حتى بعد نزول حكم الجلد في سورة النور أيضا لا تتعارض مع حكم الجلد، لأن كلا الحكمين مستقل بذاته متوقف على حالات وشروط خاصة. وأما فيما يتعلق بشروط الرجم فنجد في سورة الأحزاب شرطين واضحين يوجبان هذه العقوبة القاسية وهما:
أولا: عدم امتناع الزناة المتعودين عن هذه العادة السيئة، كما يتبين ذلك من قوله تعالى:
(لئن لم ينته المنافقون).
ثانيا: إشاعة الفاحشة وترويج المنكرات كما يتضح من قوله تعالى: (والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة).
ومما يلفت النظر أننا عندما نحلل واقعات الرجم المذكورة فيما سبق نجد هذين الشرطين متوفرين في كل هذه الواقعات. فكان الزنا والفحشاء، كما تذكر الواقعات متفشيين بكثرة في مجتمع ذلك الزمن. وكان الاعتراف بالزنا أيضا من عوامل إشاعة الفاحشة، وأيضا كان المجرمون متعودين على الزنا حيث إنهم رغم كونهم متزوجين، كانوا لا يقلعون عن هذه العادة الخبيثة، ومن أجل كل هذه الأسباب عوقبوا بالرجم.
قصارى القول إن السبب الأساسي لفرض العقوبة على الزاني في الإسلام إنما هو إشاعته وترويجه، وإلا فنحن نجد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم عدة أحداث لم يتم فيهما إشاعة الفاحشة وترويجها، وكذلك لم يعترف الزناة بالزنا، بل حلفوا على عدم ارتكابه، ومع ذلك كله لم يعاقبوا شيئا. ومن قبيل هذه الأحداث أن رجلا رأى امرأته لحظة ارتكابها للزنا، ثم إن المولود من ذلك الحمل كان يشبه الزاني، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يزد على قوله للمرأة: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن." (البخاري، كتاب التفسير، سورة النور، باب ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين)
عقوبة الزنا بالجبر أيضا الرجم
ثم إن هناك في القرآن آية أخرى يستنبط منها أيضا أن الرجم تقع في بعض حالات خاصة، ألا وهي آية المحاربة في سورة المائدة، فيقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). (سورة المائدة:34)
ويتبين من سبب نـزول هذه الآية أن الزنا بالجبر أيضا يدخل في نطاق المحاربة، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: إن هذه الآية نـزلت في أناس من "عرينة" ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا راعي الرسول صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام.(تفسير الطبري، سورة المائدة، الآية (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله)
ثم إن الإمام البخاري رحمه الله لم يضع باب الرجم في كتاب الحدود كما فعل غيره، بل وضعه في كتاب المحاربين، وبدأ هذا الكتاب بآية المحاربة ليشير بأسلوبه الخاص اللطيف إلى أن عقوبة الرجم مستنبطة من آية المحاربة، كما جاء الإمام في كتاب المحاربين نفسه برواية عبد الله بن أوفى رضي الله عنه وهي أنه سئل: هل رجم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل نزول سورة النور أم بعدها، فقال: لا أدري، ذلك ليشير الإمام إلى أن للرجم علاقة واضحة بآية المحاربة.
كما نجد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم واقعة الزنا بالجبر التي لا تذكر أن الزاني كان محصنا (أي متزوجا)، ولكنه مع ذلك رُجم. فيروي وائل بن حجر أن امرأة من المدينة كانت في طريقها إلى المسجد للصلاة بالليل، فاختطفها رجل في الطريق واغتصبها. فقبض الناس على المجرم عندما سمعوا صراخها، فجاءوا به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فرجم بعد ثبوت جريمة الزنا بالجبر. (الترمذي، كتاب الحدود، باب في المرأة إذا استكرهت على الزنا)
ففي هذه الواقعة قد عوقب الزاني بالجبر بعقوبة الرجم. هذا، وإن المفسرين أيضا قد عنوا بهذه الآية (آية المحاربة) الزنا بالجبر، فيقول العلامة القرطبي في تفسير هذه الآية: "قال مجاهد: المراد بالمحاربة في هذه الآية الزنا والسرقة وليس بصحيح....اللهم إلا أن يريد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج، هذا أفحش المحاربة وأقبح من أخذ الأموال. وقد دخل هذا في معنى قوله تعالى: (ويسعون في الأرض فسادا) (تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، سورة المائدة الآية إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله)