تتسم العقائد الفاشية بإضفاء القداسة لا على أفراد أو جماعات بشرية بعينها فحسب، بل وعلى كل ما يحيط بهؤلاء الأفراد أو تلك الجماعات، وكل ما يمت إليهم بصلة، بدءاً من الأرض وحدود الدولة وعلمها وزعيمها، وانتهاء بالطعام الذي يتناوله من ينتمي إلى هذه الأرض والزي الذي يرتديه والقبر الذي يُدفن فيه. كما تمتد القداسة لتشمل الأفكار التي يؤمن بها مثل هذا الفرد، وتصوراته وأوهامه عن نفسه وعن الآخرين. ويرجع هذا إلى النزعة الحلولية في العقائد الفاشية بوجه عام، إذ يرى الإنسان الفاشي أن الإله يحل في أرض بعينها وشعب بعينه بل ويتوحَّد بهما، مما يخلع القداسة عليهما. وشيئاً فشيئاً يتراجع دور الإله حسب هذا التصور، ويصبح المصدر المطلق للقداسة هو الأرض والشعب.
وتوجد داخل النسق العقيدي لليهودية تيارات حلولية تعادلها تيارات توحيدية، ولكن الصهيونية ركزت على الجانب الحلولي وعمَّقت من مفاهيم مثل "الشعب المختار" و"الأغيار" و"الحقوق المطلقة للشعب اليهودي" في أرض فلسطين وغيرها من المفاهيم، التي أصبحت هي الأخرى مقولات مقدسة ومطلقة لا يجوز نقدها أو التشكيك في منطقيتها، ناهيك عن رفضها تماماً. ويستمر تيار القداسة والإطلاق في الاتساع إلى أن يصل إلى جثث الموتى والمدافن التي يُدفنون فيها.
وتشغل طقوس الدفن جانباً مهماً في العقيدة اليهودية، وتأخذ أشكالاً متنوعة حسب المحيط الثقافي والتاريخي والقومي الذي تعيش فيه الجماعات اليهودية المختلفة. وبوجه عام، يحرص اليهود على غسل موتاهم بأسرع وقت ممكن، ثم يقومون بدفنهم في احتفال يجب أن يتسم بالبساطة بعد أن تُتلى صلاة القاديش. ويستخدم الإشكناز توابيت يدفنون فيها الموتى، أما اليهود الشرقيون فيدفنون موتاهم في الأرض مباشرة كما هو الحال عند المسلمين. وعادةً ما يُدفن اليهودي الذي يموت ميتة طبيعية في شال الصلاة (طاليت) الذي كان يستخدمه أثناء حياته. أما من يُقتل فيؤخذ بملابسه الملطخة، ويُلّف بشاله حتى لا يفقد أي جزء من أعضاء جسمه. وإذا كان الميت طفلاً لم يُختن، يتمسك اليهود بختانه قبل دفنه بالإضافة إلى إطلاق اسم عبري عليه.
وهناك عدة طقوس ذات طابع حلولي شعبي مرتبطة بمراسم الدفن، فكانت إحدى صلوات الإشكناز في الجنازة اليهودية تتضمن طلب الغفران من الجثة، وهي عادة ظلت قائمة حتى عام 1887، حين أوقفها الحاخام الأكبر في إنجلترا. ويلقي السفارد عملات في الجهات الأربع بوصفها هدية أو رشوة للأرواح الشريرة. ومن الطقوس المميزة لدى يهود ليبيا أنه إذا كانت أرملة الميت حبلى فإنهم يرفعون النعش وتمر الأرملة تحته حتى تبين أن الميت هو أبو الجنين الذي تحمله. ولا شك أن كثيراً من هذه العادات والطقوس مستمد من التقاليد الحضارية للشعوب التي عاش بينها أعضاء الجماعات اليهودية، وهو الأمر الذي يفسر اختلاف عادات الدفن بين يهود أوروبا، مثلاً، ويهود البلاد العربية أو إفريقيا.
وتحظى المدافن اليهودية بنفس الاهتمام الذي تحظى به طقوس الدفن، وهي تُسمى "بيت الأحياء" أو "بيت الأزلية". وقد صرح أحد الحاخامات أن المقبرة أكثر قداسة من المعبد اليهودي، أي أن المكان الذي يدفن فيه اليهودي أكثر قداسة من المكان الذي يعبد فيه الإله. ولعل هذا الاهتمام الزائد بجثمان الميت يفسر اهتمام الدولة الصهيونية بجثث الجنود القتلى الإسرائيليين، ومن هنا محاولاتها المستمرة في استرداد جثث القتلى الإسرائيليين في سيناء أو في جنوب لبنان وأخيراً في غزة، بعد العمليتين الفدائيتين اللتين أسفرتا عن مصرع 12 جندياً إسرائيلياً.
ويزور اليهود المقابر في الأعياد ليقيموا الصلوات أمام قبور الموتى حتى يتشفعوا لهم عند الإله، ولابد من دفن جميع اليهود في المكان نفسه بالطريقة نفسها، ويُحتفظ بأماكن خاصة في المدافن للعلماء والحاخامات والشخصيات البارزة.
وللدفن في "الأرض المقدسة" دلالة خاصة، وهذا أمر منطقي في الإطار الحلولي، فمع حلول الإله في الأرض والشعب، وعدم تجاوزه لهما، يتراجع الخلود الفردي ويحل محله الخلود عن طريق التوحد مع الأمة والأرض. ولا يزال كثير من أثرياء اليهود في العالم يشترون قطعاً من الأرض في فلسطين ليُدفنوا فيها، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع ثمن المقابر. وقد لُوحظ أن بعض المهاجرين من بلدان الاتحاد السوفيتي السابق يصلون أحياناً إلى الدولة الصهيونية ومعهم توابيت لبعض أفراد الأسرة ليُدفنوا في فلسطين، ولكنهم يكتشفون أن أسعار المدافن باهظة، وأنهم غير قادرين على دفع الثمن، مما يدفع البعض إلى دفن موتاهم في بلدانهم الأصلية.
وجرت العادة خارج فلسطين على أن يُرش على رأس الميت تراب يُؤتى به خصيصاً من فلسطين، كما اهتمت الحكومة الإسرائيلية اهتماماً بالغاً بنقل رفات معظم الزعماء الصهاينة فور إعلان دولة "إسرائيل"، حتى تكتمل "قداستهم" في المثوى الأخير على "الأرض المقدسة"! ومن المعروف أنه لا يجوز إخراج جثة اليهودي المدفونة من الأرض إلا لإعادة دفنها في مدافن العائلة أو في أرض "إسرائيل". ويُقال في التراث الديني الشعبي في التلمود إن جثة الميت خارج فلسطين تزحف تحت الأرض بعد دفنها حتى تصل إلى الأرض المقدّسة وتتوحد معها.
وتشكل القداسة والنجاسة مشكلة أساسية في عملية الدفن كما هو متوقع في الإطار الحلولي، وتعبّر القداسة أو انعدامها عن درجات الحلول الإلهي. فالكهنة، أي أولئك اليهود الذين يُفترض أنهم من نسل الكهنة، وهم الذين يعبّرون عن الحلول الإلهي بدرجة أعلى من بقية اليهود، يُدفَنون إما في نهاية صف المقابر أو في الصف الأمامي وعلى بعد أربع خطوات من المقبرة، وذلك حتى يتسنى إقامة حاجز يقي أقارب الميت، وهم أيضاً من الكهنة، من الدنس الذي قد يلحق بهم لو لمسوا جثث الموتى من اليهود العاديين أو اقتربوا منها.
وقد غيَّر اليهود الإصلاحيون كثيراً من طقوس الدفن، فأصبح من الممكن دفن الميت بعد يوم أو يومين في ملابس عادية، كما أنهم يصرحون بإحراق الجثة. وظهر في الآونة الأخيرة اتجاه متنام لإحراق جثمان الميت وذرِّ رماده أو الاحتفاظ به في وعاء خاص، وذلك بسبب تزايد العلمنة، وانصراف كثير من أعضاء الجماعات اليهودية، وخصوصاً في الولايات المتحدة وأوروبا، عن التمسك بالشعائر الدينية اليهودية. وفي المقابل، يعترض اليهود الأرثوذكس على مثل هذه العادات المستحدثة لأنها تتنافي، في نظرهم، مع ما يرونه أصول الشريعة اليهودية.
والله أعلم.
وتوجد داخل النسق العقيدي لليهودية تيارات حلولية تعادلها تيارات توحيدية، ولكن الصهيونية ركزت على الجانب الحلولي وعمَّقت من مفاهيم مثل "الشعب المختار" و"الأغيار" و"الحقوق المطلقة للشعب اليهودي" في أرض فلسطين وغيرها من المفاهيم، التي أصبحت هي الأخرى مقولات مقدسة ومطلقة لا يجوز نقدها أو التشكيك في منطقيتها، ناهيك عن رفضها تماماً. ويستمر تيار القداسة والإطلاق في الاتساع إلى أن يصل إلى جثث الموتى والمدافن التي يُدفنون فيها.
وتشغل طقوس الدفن جانباً مهماً في العقيدة اليهودية، وتأخذ أشكالاً متنوعة حسب المحيط الثقافي والتاريخي والقومي الذي تعيش فيه الجماعات اليهودية المختلفة. وبوجه عام، يحرص اليهود على غسل موتاهم بأسرع وقت ممكن، ثم يقومون بدفنهم في احتفال يجب أن يتسم بالبساطة بعد أن تُتلى صلاة القاديش. ويستخدم الإشكناز توابيت يدفنون فيها الموتى، أما اليهود الشرقيون فيدفنون موتاهم في الأرض مباشرة كما هو الحال عند المسلمين. وعادةً ما يُدفن اليهودي الذي يموت ميتة طبيعية في شال الصلاة (طاليت) الذي كان يستخدمه أثناء حياته. أما من يُقتل فيؤخذ بملابسه الملطخة، ويُلّف بشاله حتى لا يفقد أي جزء من أعضاء جسمه. وإذا كان الميت طفلاً لم يُختن، يتمسك اليهود بختانه قبل دفنه بالإضافة إلى إطلاق اسم عبري عليه.
وهناك عدة طقوس ذات طابع حلولي شعبي مرتبطة بمراسم الدفن، فكانت إحدى صلوات الإشكناز في الجنازة اليهودية تتضمن طلب الغفران من الجثة، وهي عادة ظلت قائمة حتى عام 1887، حين أوقفها الحاخام الأكبر في إنجلترا. ويلقي السفارد عملات في الجهات الأربع بوصفها هدية أو رشوة للأرواح الشريرة. ومن الطقوس المميزة لدى يهود ليبيا أنه إذا كانت أرملة الميت حبلى فإنهم يرفعون النعش وتمر الأرملة تحته حتى تبين أن الميت هو أبو الجنين الذي تحمله. ولا شك أن كثيراً من هذه العادات والطقوس مستمد من التقاليد الحضارية للشعوب التي عاش بينها أعضاء الجماعات اليهودية، وهو الأمر الذي يفسر اختلاف عادات الدفن بين يهود أوروبا، مثلاً، ويهود البلاد العربية أو إفريقيا.
وتحظى المدافن اليهودية بنفس الاهتمام الذي تحظى به طقوس الدفن، وهي تُسمى "بيت الأحياء" أو "بيت الأزلية". وقد صرح أحد الحاخامات أن المقبرة أكثر قداسة من المعبد اليهودي، أي أن المكان الذي يدفن فيه اليهودي أكثر قداسة من المكان الذي يعبد فيه الإله. ولعل هذا الاهتمام الزائد بجثمان الميت يفسر اهتمام الدولة الصهيونية بجثث الجنود القتلى الإسرائيليين، ومن هنا محاولاتها المستمرة في استرداد جثث القتلى الإسرائيليين في سيناء أو في جنوب لبنان وأخيراً في غزة، بعد العمليتين الفدائيتين اللتين أسفرتا عن مصرع 12 جندياً إسرائيلياً.
ويزور اليهود المقابر في الأعياد ليقيموا الصلوات أمام قبور الموتى حتى يتشفعوا لهم عند الإله، ولابد من دفن جميع اليهود في المكان نفسه بالطريقة نفسها، ويُحتفظ بأماكن خاصة في المدافن للعلماء والحاخامات والشخصيات البارزة.
وللدفن في "الأرض المقدسة" دلالة خاصة، وهذا أمر منطقي في الإطار الحلولي، فمع حلول الإله في الأرض والشعب، وعدم تجاوزه لهما، يتراجع الخلود الفردي ويحل محله الخلود عن طريق التوحد مع الأمة والأرض. ولا يزال كثير من أثرياء اليهود في العالم يشترون قطعاً من الأرض في فلسطين ليُدفنوا فيها، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع ثمن المقابر. وقد لُوحظ أن بعض المهاجرين من بلدان الاتحاد السوفيتي السابق يصلون أحياناً إلى الدولة الصهيونية ومعهم توابيت لبعض أفراد الأسرة ليُدفنوا في فلسطين، ولكنهم يكتشفون أن أسعار المدافن باهظة، وأنهم غير قادرين على دفع الثمن، مما يدفع البعض إلى دفن موتاهم في بلدانهم الأصلية.
وجرت العادة خارج فلسطين على أن يُرش على رأس الميت تراب يُؤتى به خصيصاً من فلسطين، كما اهتمت الحكومة الإسرائيلية اهتماماً بالغاً بنقل رفات معظم الزعماء الصهاينة فور إعلان دولة "إسرائيل"، حتى تكتمل "قداستهم" في المثوى الأخير على "الأرض المقدسة"! ومن المعروف أنه لا يجوز إخراج جثة اليهودي المدفونة من الأرض إلا لإعادة دفنها في مدافن العائلة أو في أرض "إسرائيل". ويُقال في التراث الديني الشعبي في التلمود إن جثة الميت خارج فلسطين تزحف تحت الأرض بعد دفنها حتى تصل إلى الأرض المقدّسة وتتوحد معها.
وتشكل القداسة والنجاسة مشكلة أساسية في عملية الدفن كما هو متوقع في الإطار الحلولي، وتعبّر القداسة أو انعدامها عن درجات الحلول الإلهي. فالكهنة، أي أولئك اليهود الذين يُفترض أنهم من نسل الكهنة، وهم الذين يعبّرون عن الحلول الإلهي بدرجة أعلى من بقية اليهود، يُدفَنون إما في نهاية صف المقابر أو في الصف الأمامي وعلى بعد أربع خطوات من المقبرة، وذلك حتى يتسنى إقامة حاجز يقي أقارب الميت، وهم أيضاً من الكهنة، من الدنس الذي قد يلحق بهم لو لمسوا جثث الموتى من اليهود العاديين أو اقتربوا منها.
وقد غيَّر اليهود الإصلاحيون كثيراً من طقوس الدفن، فأصبح من الممكن دفن الميت بعد يوم أو يومين في ملابس عادية، كما أنهم يصرحون بإحراق الجثة. وظهر في الآونة الأخيرة اتجاه متنام لإحراق جثمان الميت وذرِّ رماده أو الاحتفاظ به في وعاء خاص، وذلك بسبب تزايد العلمنة، وانصراف كثير من أعضاء الجماعات اليهودية، وخصوصاً في الولايات المتحدة وأوروبا، عن التمسك بالشعائر الدينية اليهودية. وفي المقابل، يعترض اليهود الأرثوذكس على مثل هذه العادات المستحدثة لأنها تتنافي، في نظرهم، مع ما يرونه أصول الشريعة اليهودية.
والله أعلم.