كان محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ، قبل أن يُبعث نبيّا ، يَبغضُ ما كان يفعلُ قومُه من عبادة الأصنام . وكان يعتكفُ شهرًا من كلّ سنة في غار حراء بِمَكَّة ، يَتعبَّد على شَرْع النَّبيّ إبراهيم عليه السَّلام .
قال ابنُ إسحاق ، أحد الأئمَّة الثّقات الذين كَتبوا عن سيرة النَّبيّ محمَّد، ونقلاً عن كتابه السّيرة النَّبويَّة مع تصرّف بسيط في سَرْد القصَّة : فلمَّا بلغ سِنَّ الأربعين ، جاءه الملَك جبريل في ليلةٍ من ليالي شهر رمضان وهو نائم في غار حراء .
يقول محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم : فقال لي : اقرأْ ، قلتُ : ما أنا بقارئ (أي لا أعرف القراءة ) ! فغَتَّني (أي شَدَّني) حتَّى ظننتُ أنَّه الموتُ ، ثمَّ أرسلَني فقال : اقرأْ ، قلتُ : ما أنا بقارئ ! فغَتَّني حتَّى ظننتُ أنَّه الموتُ ، ثمَّ أرسلَني فقال : اقرأْ ، قلتُ : ماذا أقرأْ ؟! ما أقولُ ذلك إلاَّ افتداءً منه أن يَعود لي بمثل ما صنع بي ، فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ 2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ 3 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ 4 عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ 5 } (96- العلق 1-5) .
فكان هذا أوَّل ما نَزل من القرآن الكريم ، ثمَّ توالَى نُزولُ الوَحْي بعد ذلك بواسطة الملَك جِبْريل عليه السَّلام على مدى ثلاث وعشرين سنة ، مُتَفرّقًا بحسب الأحداث .
يقولُ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم متابعًا القصَّة : فقرأتُها (أي الآيات) ، ثمَّ انتهى وانصرفَ عنّي . فهبَبْتُ من نومي وكأنَّما كُتِبَتْ في قلبي كتابًا .
فخرجتُ ، حتّى إذا كنتُ في وَسط من الجبل سمعتُ صوتًا من السَّماء يقول : يا محمَّد ، أنتَ رسولُ الله وأنا جبريل ! فرفعتُ رأسي إلى السَّماء أنظُر ، فإذا جبريلُ في صورة رجُلٍ صافٍّ قدمَيْه في أُفُق السَّماء يقولُ : يا محمَّد ، أنتَ رسولُ الله وأنا جبريل !
فوَقفتُ أنظرُ إليه ، لا أتقدَّم ولا أتأخَّر ، وجعلْتُ أصرفُ وجهي عنه في آفاق السَّماء ، فلا أنظرُ في ناحيَة منها إلاَّ رأيتُه كذلك !
فمازلتُ واقفًا لا أتقدَّم أمامي ولا أرجعُ ورائي حتَّى بعثَتْ خديجةُ رُسُلَها في طلَبي ، فبَلَغُوا أعلَى مكَّة ورجعُوا إليها وأنا واقفٌ في مكاني ذلك .
ثمَّ انصرفَ عنّي ، وانصرفتُ راجعًا إلى أهلي حتَّى أتيتُ خديجة ، فجلستُ إلى فخذها مُلْتصقًا بها . فقالتْ : يا أبا القاسم ، أين كُنت ؟ فوَالله لقد بعثْتُ رُسُلي في طَلَبك حتَّى بَلَغُوا مكَّة ورجعُوا لي . فحدَّثْتُها بالذي رأيتُ ، فقالتْ : أبْشر يا ابنَ عمّ واثبُتْ ، فوَالَّذي نَفْسُ خديجةَ بيَده إنّي لَأَرجو أن تكونَ نَبيَّ هذه الأُمَّة .
قال ابن إسحاق : ثمَّ قامتْ خديجة ، فجَمعتْ عليها ثيابها وانطَلَقَتْ إلى ابن عمّها وَرَقَة بن نَوْفَل ، وكان قد تَنَصَّر وقَرَأَ الكُتُبَ وسمعَ منْ أهْل التَّوراة والإنْجيل .
فأَخبَرتْه بما أخْبَرها به رسولُ الله صلّى الله عليه وسلَّم أنَّه رأَى وسمع ، فقال وَرَقة : قُدُّوسٌ ! قُدُّوس ! وَالَّذي نَفْسُ وَرَقة بيَده لَئنْ كُنْت صَدَقْتني يا خديجة ، لقد جاءهُ النَّامُوسُ (أي الملَكُ) الأكبر الذي كان يَأتي مُوسى ، وإنَّه لَنَبيُّ هذه الأُمَّة ، فقُولي له فَلْيَثْبُتْ . فرجَعَتْ خديجةُ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأخْبَرَتْه بقَول وَرَقة .
فلمَّا قَضى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم جوارَه وانصرفَ ، بدأ بالكعبة فطافَ بها كما كان يَصنع . فلَقِيَه وَرقَة بن نَوْفَل وهو يَطُوف ، فقال : يا ابنَ أخي ، أخبِرْني بما رأيْتَ وسمِعْت . فأخبرَه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، فقال وَرَقَة : والذي نَفْسي بِيَدِه إنَّكَ لَنَبيُّ هذه الأمَّة ، ولقد جاءكَ النَّاموسُ الأكبرُ الذي جاء موسى ، ولَتُكَذَّبَنَّه ولَتُؤذَيَنَّه ولَتُخرَجنَّه ولَتُقَاتَلَنَّه ، ولَئِنْ أنا أدركتُ ذلكَ اليومَ لَأَنصُرَنَّ الله نصرًا يَعْلَمُه .
ثمَّ أَدْنَى رأسَه منه ، فقبَّلَ يافُوخَه (أي وسَط رأسِه) ، وانصرفَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى مَنزله .
هكذا إذًا بدأت نُبُوَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ، وهكذا صدَّقتْهُ زوجتُه خديجة وثَبَّتَتْه ، رضي الله عنها . ثمَّ صدَّقَه النّصراني وَرَقَة بن نَوفَل ، لِمَا كان يجدُ من صِفاته وزمان بعثَته في التَّوراة والإنجيل . ولم يَلْبَث وَرَقة أن تُوفّي بعد ذلك بقليل ، رحمه الله .
وقد روى الحافظ أبو يَعْلى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم سُئِلَ عن وَرَقَة بن نَوفَل ، فقال : أبصرْتُه في بُطْنان الجنَّة (أي داخِلَها) وعليه سُندس . (مسند أبي يعلى - الجزء 4 - ص 41 - رقم الحديث 2047) .