كيف أنزل القرآن الكريم ؟
أنزلَ القرآنُ وحيًا باللُّغة العربيَّة ، مِن الله تعالى على النَّبيّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ، بواسطة الملَك جبريل عليه السَّلام .
يقول الله تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ 192 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195 } (26- الشّعراء 192-195) .
ولم ينزل القرآنُ مرَّةً واحدة ، وإنَّما نزلَ متفرّقًا ، بحسب الأحداث ، على مدى 23 سنة .
يقول الله تعالى : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً 106 } (17- الإسراء 106) .
فكان النَّبيُّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم يَحفظ ما أُنزل عليه من آيات ، ثمَّ يتلُوها على أصحابه ، فيَحفظوها في صدورهم ويكتبوها .
وكان مِن بين أصحابه مَن كان مُكلَّفًا بكتابة الوحي ، مثل : زيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ، فكانَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُملي عليهم ما يَنزلُ عليه من الآيات ، فيكْتبوها فَوْر نُزولها .
ولا يمكن أن نشكَّ في جَوْدة حفْظ النَّبيّ للقرآن ، لأنَّ الله تعالى تكفَّلَ بتحفيظه له !
يقول تعالى مخاطبًا إيَّاه : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ 16 إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ 17 فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ 18 ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ 19 } (75- القيامة 16-19) .
ذلك أنَّ الملَكَ جبريل عليه السَّلام كان يأتي إلى النَّبيّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم لِيُوحِي إليه آيات جديدة من القرآن ، فكان النَّبيُّ يتعجَّلُ في ترديد ما يقرأه عليه الملَك حتَّى لا يَنسى أيَّ حرف منه . فطَمْأنه اللهُ تعالى في هذه الآيات بأنَّه تكفَّل بأن يجمع له القرآنَ في صدره فلا ينساه أبدًا ، ويُبيّن له معناه ويُوَضّحه له . ما عليه إذًا إلاَّ أن يُنْصت إلى الملَك ، ثمَّ يقرأ وراءه بكلّ طمأنينة .
وكان للنَّبيّ بعد ذلك موعدٌ سنوي مع جبريل عليه السَّلام ، لِيَعرض عليه ما نزل حتَّى ذلك اليوم من القرآن .
فقد روى الإمام أحمد في مُسْنَده عن ابن عبَّاس رضي الله عنه ، قال : كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يعرضُ القرآن في كلّ رمضان على جبريل ، فيُصبحُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِن لَيْلَته التي يعرضُ فيها ما يعرض وهو أَجْوَد من الرّيح المرْسَلَة ، لا يُسألُ عن شيء إلاَّ أعطاه ، حتَّى كان الشَّهر الذي هلكَ (أي تُوفّيَ) بعده، عرضَ فيه عرضَتَيْن (أي مرَّتين) . (مسند الإمام أحمد بن حنبل - الجزء 1 - ص 326 - رقم الحديث 3012) .
ولَم ينزل القرآنُ بالتَّرتيب الحالي الذي نَعرفُه اليوم ، وإنَّما كانت الآيات تنزلُ بِحَسَب الأحداث ، فكان النَّبيُّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم يقول لِكُتَّاب الوحي : ضَعُوا الآية كذا في موضع كذا من السُّورة كذا .
فقد روى الحاكم في مُستدركه عن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يأتي عليه الزَّمان تنزلُ عليه السُّوَر ذوات عدد ، فكان إذا نزلَ عليه الشَّيء يَدعُو بعضَ مَن كان يكتبُه ، فيقول : ضَعُوا هذه في السُّورة التي يُذكَر فيها كذَا وكذَا ، وتنزلُ عليه الآية فيقولُ : ضَعُوا هذه في السُّورة التي يُذكَر فيها كذَا وكذَا . (المستدرك على الصّحيحين - الجزء 2 - ص 241 - رقم الحديث 2875) .
ولَمَّا تُوفّيَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، كانَ المئاتُ من الصَّحابَة يحفظون القرآن كاملاً عن ظهر قَلْب . لكن وقعت معركةٌ شديدة في عهد الخليفة الأوَّل أبي بكر الصّدّيق ، بين المسلمين وبين بعض العرب الذين التفُّوا وراء رجُلٍ اسمه مُسَيْلمة ، ادَّعَى النُّبوَّة . فاستُشهِد في هذه المعركة ، وهي معركة اليمامة ، عدد كبير من حُفَّاظ القرآن ، مِمَّا دَفعَ بالصَّحابي عمر بن الخطَّاب أن يَطلب من أبي بكر أن يَجمع القرآنَ في مصحف واحد مكتوب .
فقد روى البَيْهقي في سُنَنه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ، قال : بعثَ إليَّ أبو بكر رضي الله عنه ، مَقْتَل أهل اليمامة (أي إثر معركة اليمامة) ، وعندهُ عُمَر (بن الخطَّاب) رضي الله عنه . فقال أبو بكر : إنَّ عُمَر أتاني فقال : إنَّ القتل قد استحر (أي اشتدَّ وكَثُر) يَومَ اليمامة بقُرَّاء القُرآن ، وإنّي أخشَى أن يستحر القتلُ بقُرَّاء القرآن في المواطن كلّها (أي في المعارك الموالية مع الكفَّار) فيذهب قرآنٌ كثيرٌ ، وإنّي أرى أن تأمرَ بِجَمع القرآن . قلتُ : كيف أفعلُ شيئًا لَمْ يفعلْهُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ؟! فقال عمر : هو واللهِ خير . فلَمْ يَزلْ عُمَر يُراجعُني في ذلك حتَّى شرحَ الله صدري لِلَّذي شرحَ له صدْرَ عُمَر ، ورأيتُ في ذلك الذي رأى عُمَر .
قال زيد : ثمَّ قال لي أبو بكر : وإنَّك رجلٌ شابّ عاقل ، لا نتَّهمُك ، قد كنتَ تكتبُ الوحيَ لِرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، فَتَتَبَّعِ القرآنَ فاجمعهُ .
فَوَالله لَو كَلَّفَني بنَقْلَ جبل من الجبال ما كانَ بأثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كلَّفني من جمع القرآن ! فقلتُ : كيفَ تفعلان شيئًا لَمْ يفعلْهُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ؟! فقال أبو بكر : هو واللهِ خير . فلَمْ يَزلْ يُراجعُني في ذلك حتَّى شرحَ الله صدري لِلَّذي شرح له صدْرَ أبي بكر وعُمر ، ورأيتُ في ذلك الذي رأيَا . فتتبَّعتُ القرآنَ أجمعهُ من العسب والرّقاع واللّخاف وصدور الرّجال ، فوجدتُ آخر سورة التَّوبة : { لقد جاءكُم رسولٌ من أنفُسكُم ... } إلى آخر السُّورة ، مع خُزيْمة وأبي خُزيمة ، فألحَقْتُها في سورتها . فكانت الصُّحُف عند أبي بَكر حياتَه ، ثمَّ عند عُمَر حياتَه حتَّى تَوَفَّاهُ الله ، ثمَّ عند حفصة بنت عُمَر . (سنن البيهقي الكبرى - الجزء 2 - ص 40 - رقم الحديث 2202) .
قال ابنُ حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري : كان القرآنُ قد كُتِبَ كلّه في حياة النَّبيّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ، ولكنَّه لَم يَكُن مجموعًا في مكان واحد .
فلَمَّا اختِيرَ زيدُ بن ثابت لِجمع القرآن ، وكان أحد كتَّاب الوحي الممَيَّزين في حياة النَّبيّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ، وكان يحفظُ القرآن كاملاً ، استعانَ في مهمَّته الثَّقيلة هذه بثلاثة آخرين من حُفَّاظ القرآن المعروفين بأمانتهم . وبالرَّغم من أنَّهم الأربعة كانُوا يحفظون القرآن عن ظهر قلب ، إلاَّ أنَّ زيدًا ، زيادةً في الحيطة ، كان خلال جمعه للقرآن لا يَقبلُ إلاَّ ما كُتِبَ في حياة النَّبيّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وشهد شاهدان ثقات بصحَّته .
تَمَّ جمعُ القرآن إذًا في مصحف واحد في عهد الخليفة الأوَّل أبي بكر الصّدّيق ، وبقي كذلك في عهد الخليفة الثَّاني عمر بن الخطَّاب . فلمَّا تولَّى عثمانُ بن عفَّان الخلافة بعد عُمَر ، كلَّف زيدَ بن ثابت بجمع القرآن مرَّة ثانية ، ثمَّ بعثَ نُسَخًا منه إلى أنحاء الدّولة الإسلاميَّة .
والسَّببُ في ذلك ما رواه النّسائي في سُنَنه عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أنَّ حُذَيْفة (بن اليَمان) قدم على عثمان (بن عفَّان) ، وكان يُغازي أهل الشَّام مع أهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان ، فأفزعَ حُذَيفةَ اختلافهم في القرآن ، فقالَ لِعُثمان : يا أمير المؤمنين ، أدْرِكْ هذه الأمَّة قبل أن يختلِفُوا في الكتاب كما اختلفَت اليهودُ والنَّصارى ! فأرسلَ عُثمانُ إلى حَفصة أن أرسلِي إلينا بالصُّحُف ننسخُها في المصاحف ثمَّ نَرُدُّها إليكِ . فأرسلَتْ بها إليه ، فأمَر زيدَ بن ثابت ، وعبد الله بن الزُّبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرَّحمن بن الحارث بن هشام ، أن يَنسخُوا الصُّحُف في المصاحف ، فإن اختلفُوا وزيدَ بن ثابت (أي إن اختلف الثَّلاثة القُرَشيُّون مع زيد) في شيء من القرآن ، فاكتبوهُ بلسان قُرَيْش ، فإنَّ القرآنَ نزلَ بلسانهم . ففعلُوا ذلك ، حتَّى إذا نَسخُوا الصُّحُف في المصاحف ، رَدَّ عُثمانُ الصُّحُفَ إلى حفصة ، وأرسلَ إلى كُلّ أُفُقٍ مُصحفًا مِمَّا نسخُوا . (السّنن الكبرى - الجزء 5 - ص 6 - رقم الحديث 7988) .
والاختلاف الذي ذكَره حُذَيْفة هنا في القرآن ، هو اختلاف اللّهجات بين أهل الحجاز وأهل سوريا وأهل العراق . وكلُّ مَن يجوبُ الأقطارَ العربيَّة اليوم يُلاحظ اختلافَ العرب في نُطق بعض الحروف، مثل القاف ، والجيم ، وغيرهما .
وهذا ما دعا الخليفةَ عثمان بن عفَّان رضي الله عنه أن يجمع القرآن مرَّة ثانية . وكُلّفَ زيدُ بن ثابت مرَّة أخرى بهذه المهمَّة الثَّقيلة مع ثلاثةٍ من الصَّحابة ، وجُمِع القرآنُ مرَّة أخرى في مصحف واحد سُمّيَ بِمُصحف عثمان . ثمَّ وقعَت كتابة بعض النُّسخ منه ، أرسِلَتْ إلى الكوفة ، والبصرة ، وسوريا، وقيل : وأيضًا إلى اليمن ، والبحرين ، ومكَّة . واحتفَظَ عثمان بنسخة في المدينة ، ونسخة أخرى في بيته .
ومنذ ذلك اليوم ، أصبحت هذه النُّسخة من مُصحف عُثمان هي النُّسخة الوحيدة المعتَمَدة في طبع القرآن في كلّ بقاع العالم .
هكذا إذًا أُنْزلَ القرآن ، وهكذَا حفظه الله تعالى من التَّحريف والزّيادة والنُّقصان ، وسيبقَى محفوظًا إلى يوم القيامة .
أنزلَ القرآنُ وحيًا باللُّغة العربيَّة ، مِن الله تعالى على النَّبيّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ، بواسطة الملَك جبريل عليه السَّلام .
يقول الله تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ 192 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195 } (26- الشّعراء 192-195) .
ولم ينزل القرآنُ مرَّةً واحدة ، وإنَّما نزلَ متفرّقًا ، بحسب الأحداث ، على مدى 23 سنة .
يقول الله تعالى : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً 106 } (17- الإسراء 106) .
فكان النَّبيُّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم يَحفظ ما أُنزل عليه من آيات ، ثمَّ يتلُوها على أصحابه ، فيَحفظوها في صدورهم ويكتبوها .
وكان مِن بين أصحابه مَن كان مُكلَّفًا بكتابة الوحي ، مثل : زيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ، فكانَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُملي عليهم ما يَنزلُ عليه من الآيات ، فيكْتبوها فَوْر نُزولها .
ولا يمكن أن نشكَّ في جَوْدة حفْظ النَّبيّ للقرآن ، لأنَّ الله تعالى تكفَّلَ بتحفيظه له !
يقول تعالى مخاطبًا إيَّاه : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ 16 إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ 17 فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ 18 ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ 19 } (75- القيامة 16-19) .
ذلك أنَّ الملَكَ جبريل عليه السَّلام كان يأتي إلى النَّبيّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم لِيُوحِي إليه آيات جديدة من القرآن ، فكان النَّبيُّ يتعجَّلُ في ترديد ما يقرأه عليه الملَك حتَّى لا يَنسى أيَّ حرف منه . فطَمْأنه اللهُ تعالى في هذه الآيات بأنَّه تكفَّل بأن يجمع له القرآنَ في صدره فلا ينساه أبدًا ، ويُبيّن له معناه ويُوَضّحه له . ما عليه إذًا إلاَّ أن يُنْصت إلى الملَك ، ثمَّ يقرأ وراءه بكلّ طمأنينة .
وكان للنَّبيّ بعد ذلك موعدٌ سنوي مع جبريل عليه السَّلام ، لِيَعرض عليه ما نزل حتَّى ذلك اليوم من القرآن .
فقد روى الإمام أحمد في مُسْنَده عن ابن عبَّاس رضي الله عنه ، قال : كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يعرضُ القرآن في كلّ رمضان على جبريل ، فيُصبحُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِن لَيْلَته التي يعرضُ فيها ما يعرض وهو أَجْوَد من الرّيح المرْسَلَة ، لا يُسألُ عن شيء إلاَّ أعطاه ، حتَّى كان الشَّهر الذي هلكَ (أي تُوفّيَ) بعده، عرضَ فيه عرضَتَيْن (أي مرَّتين) . (مسند الإمام أحمد بن حنبل - الجزء 1 - ص 326 - رقم الحديث 3012) .
ولَم ينزل القرآنُ بالتَّرتيب الحالي الذي نَعرفُه اليوم ، وإنَّما كانت الآيات تنزلُ بِحَسَب الأحداث ، فكان النَّبيُّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم يقول لِكُتَّاب الوحي : ضَعُوا الآية كذا في موضع كذا من السُّورة كذا .
فقد روى الحاكم في مُستدركه عن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يأتي عليه الزَّمان تنزلُ عليه السُّوَر ذوات عدد ، فكان إذا نزلَ عليه الشَّيء يَدعُو بعضَ مَن كان يكتبُه ، فيقول : ضَعُوا هذه في السُّورة التي يُذكَر فيها كذَا وكذَا ، وتنزلُ عليه الآية فيقولُ : ضَعُوا هذه في السُّورة التي يُذكَر فيها كذَا وكذَا . (المستدرك على الصّحيحين - الجزء 2 - ص 241 - رقم الحديث 2875) .
ولَمَّا تُوفّيَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، كانَ المئاتُ من الصَّحابَة يحفظون القرآن كاملاً عن ظهر قَلْب . لكن وقعت معركةٌ شديدة في عهد الخليفة الأوَّل أبي بكر الصّدّيق ، بين المسلمين وبين بعض العرب الذين التفُّوا وراء رجُلٍ اسمه مُسَيْلمة ، ادَّعَى النُّبوَّة . فاستُشهِد في هذه المعركة ، وهي معركة اليمامة ، عدد كبير من حُفَّاظ القرآن ، مِمَّا دَفعَ بالصَّحابي عمر بن الخطَّاب أن يَطلب من أبي بكر أن يَجمع القرآنَ في مصحف واحد مكتوب .
فقد روى البَيْهقي في سُنَنه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ، قال : بعثَ إليَّ أبو بكر رضي الله عنه ، مَقْتَل أهل اليمامة (أي إثر معركة اليمامة) ، وعندهُ عُمَر (بن الخطَّاب) رضي الله عنه . فقال أبو بكر : إنَّ عُمَر أتاني فقال : إنَّ القتل قد استحر (أي اشتدَّ وكَثُر) يَومَ اليمامة بقُرَّاء القُرآن ، وإنّي أخشَى أن يستحر القتلُ بقُرَّاء القرآن في المواطن كلّها (أي في المعارك الموالية مع الكفَّار) فيذهب قرآنٌ كثيرٌ ، وإنّي أرى أن تأمرَ بِجَمع القرآن . قلتُ : كيف أفعلُ شيئًا لَمْ يفعلْهُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ؟! فقال عمر : هو واللهِ خير . فلَمْ يَزلْ عُمَر يُراجعُني في ذلك حتَّى شرحَ الله صدري لِلَّذي شرحَ له صدْرَ عُمَر ، ورأيتُ في ذلك الذي رأى عُمَر .
قال زيد : ثمَّ قال لي أبو بكر : وإنَّك رجلٌ شابّ عاقل ، لا نتَّهمُك ، قد كنتَ تكتبُ الوحيَ لِرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، فَتَتَبَّعِ القرآنَ فاجمعهُ .
فَوَالله لَو كَلَّفَني بنَقْلَ جبل من الجبال ما كانَ بأثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كلَّفني من جمع القرآن ! فقلتُ : كيفَ تفعلان شيئًا لَمْ يفعلْهُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ؟! فقال أبو بكر : هو واللهِ خير . فلَمْ يَزلْ يُراجعُني في ذلك حتَّى شرحَ الله صدري لِلَّذي شرح له صدْرَ أبي بكر وعُمر ، ورأيتُ في ذلك الذي رأيَا . فتتبَّعتُ القرآنَ أجمعهُ من العسب والرّقاع واللّخاف وصدور الرّجال ، فوجدتُ آخر سورة التَّوبة : { لقد جاءكُم رسولٌ من أنفُسكُم ... } إلى آخر السُّورة ، مع خُزيْمة وأبي خُزيمة ، فألحَقْتُها في سورتها . فكانت الصُّحُف عند أبي بَكر حياتَه ، ثمَّ عند عُمَر حياتَه حتَّى تَوَفَّاهُ الله ، ثمَّ عند حفصة بنت عُمَر . (سنن البيهقي الكبرى - الجزء 2 - ص 40 - رقم الحديث 2202) .
قال ابنُ حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري : كان القرآنُ قد كُتِبَ كلّه في حياة النَّبيّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ، ولكنَّه لَم يَكُن مجموعًا في مكان واحد .
فلَمَّا اختِيرَ زيدُ بن ثابت لِجمع القرآن ، وكان أحد كتَّاب الوحي الممَيَّزين في حياة النَّبيّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ، وكان يحفظُ القرآن كاملاً ، استعانَ في مهمَّته الثَّقيلة هذه بثلاثة آخرين من حُفَّاظ القرآن المعروفين بأمانتهم . وبالرَّغم من أنَّهم الأربعة كانُوا يحفظون القرآن عن ظهر قلب ، إلاَّ أنَّ زيدًا ، زيادةً في الحيطة ، كان خلال جمعه للقرآن لا يَقبلُ إلاَّ ما كُتِبَ في حياة النَّبيّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وشهد شاهدان ثقات بصحَّته .
تَمَّ جمعُ القرآن إذًا في مصحف واحد في عهد الخليفة الأوَّل أبي بكر الصّدّيق ، وبقي كذلك في عهد الخليفة الثَّاني عمر بن الخطَّاب . فلمَّا تولَّى عثمانُ بن عفَّان الخلافة بعد عُمَر ، كلَّف زيدَ بن ثابت بجمع القرآن مرَّة ثانية ، ثمَّ بعثَ نُسَخًا منه إلى أنحاء الدّولة الإسلاميَّة .
والسَّببُ في ذلك ما رواه النّسائي في سُنَنه عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أنَّ حُذَيْفة (بن اليَمان) قدم على عثمان (بن عفَّان) ، وكان يُغازي أهل الشَّام مع أهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان ، فأفزعَ حُذَيفةَ اختلافهم في القرآن ، فقالَ لِعُثمان : يا أمير المؤمنين ، أدْرِكْ هذه الأمَّة قبل أن يختلِفُوا في الكتاب كما اختلفَت اليهودُ والنَّصارى ! فأرسلَ عُثمانُ إلى حَفصة أن أرسلِي إلينا بالصُّحُف ننسخُها في المصاحف ثمَّ نَرُدُّها إليكِ . فأرسلَتْ بها إليه ، فأمَر زيدَ بن ثابت ، وعبد الله بن الزُّبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرَّحمن بن الحارث بن هشام ، أن يَنسخُوا الصُّحُف في المصاحف ، فإن اختلفُوا وزيدَ بن ثابت (أي إن اختلف الثَّلاثة القُرَشيُّون مع زيد) في شيء من القرآن ، فاكتبوهُ بلسان قُرَيْش ، فإنَّ القرآنَ نزلَ بلسانهم . ففعلُوا ذلك ، حتَّى إذا نَسخُوا الصُّحُف في المصاحف ، رَدَّ عُثمانُ الصُّحُفَ إلى حفصة ، وأرسلَ إلى كُلّ أُفُقٍ مُصحفًا مِمَّا نسخُوا . (السّنن الكبرى - الجزء 5 - ص 6 - رقم الحديث 7988) .
والاختلاف الذي ذكَره حُذَيْفة هنا في القرآن ، هو اختلاف اللّهجات بين أهل الحجاز وأهل سوريا وأهل العراق . وكلُّ مَن يجوبُ الأقطارَ العربيَّة اليوم يُلاحظ اختلافَ العرب في نُطق بعض الحروف، مثل القاف ، والجيم ، وغيرهما .
وهذا ما دعا الخليفةَ عثمان بن عفَّان رضي الله عنه أن يجمع القرآن مرَّة ثانية . وكُلّفَ زيدُ بن ثابت مرَّة أخرى بهذه المهمَّة الثَّقيلة مع ثلاثةٍ من الصَّحابة ، وجُمِع القرآنُ مرَّة أخرى في مصحف واحد سُمّيَ بِمُصحف عثمان . ثمَّ وقعَت كتابة بعض النُّسخ منه ، أرسِلَتْ إلى الكوفة ، والبصرة ، وسوريا، وقيل : وأيضًا إلى اليمن ، والبحرين ، ومكَّة . واحتفَظَ عثمان بنسخة في المدينة ، ونسخة أخرى في بيته .
ومنذ ذلك اليوم ، أصبحت هذه النُّسخة من مُصحف عُثمان هي النُّسخة الوحيدة المعتَمَدة في طبع القرآن في كلّ بقاع العالم .
هكذا إذًا أُنْزلَ القرآن ، وهكذَا حفظه الله تعالى من التَّحريف والزّيادة والنُّقصان ، وسيبقَى محفوظًا إلى يوم القيامة .