إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102)) (آل عمران)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)) (النساء)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)) (الأحزاب).
عباد لله: لقد شرع الله لعباده كثيرًا من الطاعات التي تجمع على المرء الجوارح والقلب لينشغل بعبادة الله- تعالى- وحده، وإن من أجلّ هذه الطاعات تلك السّنّة التي يخلو المرء فيها بربه خاضعًا فيناجيه معترفًا، وينصرف بها عن الدنيا فتزكو نفسه وتسمو ليصبح إنسانًا ربانيًّا، إنها السّنّة التي حافظ الرسول عليها طوال حياته، إنها سُنّة الاعتكاف.
فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يعتكف في كل رمضان عشرة أيام؛ فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعتكف عشرين يومًا(1).
لقد حرص رسول الأمة على هذه العبادة رغم انشغاله بالدعوة والتربية والتعليم والجهاد، تاركًا لمن بعده ممن يقتفون أثره، وينتهجون نهجه.
إنه يعد درسًا عظيمًا في أهمية الانقطاع إلى الله- عز وجل- والتحرر من المشاغل والمسئوليات كائنًا من كان صاحبها في الدعوة والعلم. ولا شك أن هذا الاعتكاف ما شُرع إلا لحِكَمٍ عظيمة(2).
أيها الصائمون: إن للاعتكاف آدابًا وأحكامًا، وله أسرار ومقاصد، قال ابن القيم- رحمه الله- مبينًا المقصود من الاعتكاف: "وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه، والخلوة به عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده- سبحانه-؛ بحيث يصير ذكره، وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته؛ فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه، وما يقرب منه؛ فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق؛ فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه؛ فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم" انتهى كلامه- رحمه الله-(3).
أيها المؤمنون: وللاعتكاف فضائل عظيمة ومما يدل على أهميته أمور منها:
أن في العشر الأواخر ليلة هي خير من ألف شهر، أي خير من ثلاث وثمانين سنة ليس فيها ليلة القدر، وإنما كان يعتكف- صلى الله عليه وسلم- رجاء أن يوافقها، بل قد اعتكف العشر الأوّل ثم الأوسط، ثم أطْلع رأسه فكلم الناس، فدنوا منه، فقال: "إني اعتكفت العشر الأوّل، ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أُتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف"(4) فهذا إرشاد منه عليه الصلاة والسلام، ودلالة منه لأمته إلى الاعتكاف، لما فيه من الفضائل العظيمة والأجور المضاعفة.
ومما يدل على أهمية الاعتكاف أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يتركه، وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يومًا، بل لما تنافست نساؤه على الاعتكاف تركه، ثم قضاه في العشر الأول من شوال، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه، وإنه أمر بخبائه فضُرب- أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان- فأمرت زينب بخبائها فضرب، وأمر غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخبائه فضرب، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر نظر فإذا الأخبية، فقال: "آلبر تردن؟" فأمر بخبائه فقوض، وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال(5). كل ذلك فعله عليه الصلاة والسلام تحصيلاً لتلك القربة ألا تفوت، وفعله كافٍ لبيان فضله.
ومما يؤكد أفضلية الاعتكاف- أيضًا- أن أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم- اعتكفن معه وبعده، حتى إن عائشة- رضي الله عنها- لتقول: اعتكفت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- امرأة مستحاضة من أزواجه، فكانت ترى الحمرة والصفرة، فربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي(6).
فيا سبحان الله! إذا كانت حتى نساء الصحابة يعتكفن، بل وإن كن مستحاضات، فما بال الرجال من الشباب والكهول عن هذه العبادة راغبون؟ ألم يعلموا أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لما أحس بدنو أجله اعتكف عشرين يومًا؟ فيا أيها الدعاة: إن كنتم تريدون هداية الناس، فاعبدوا الله حقًّا بمثل الاعتكاف(7).
معشر الصائمين: وللاعتكاف آداب يستحب للمعتكف أن يأخذ بها حتى يكون اعتكافه مقبولاً، وكلما حافظ عليها المعتكف كان له الأجر الجزيل من رب العالمين، وكلما أخلَّ بهذه الآداب نقص أجره، ومما ينبغي للمعتكف التحلي به من الآداب: استحضارُ النيَّةِ الصالحةِ، واحتسابُ الأجر على الله- عز وجل- مع استشعار الحكمةِ من الاعتكاف، وهي الانقطاع للعبادة، وجَمْعِيَّةُ القلب على الله- عز وجل-، والتشاغل بالصلاة وتلاوة القرآن وبذكر الله- تعالى-، والإكثار من النوافل عمومًا، والانتقالُ من نوع إلى نوع آخر من العبادة؛ لأجل ألا يدبَّ الفتور والملل إلى المعتكف؛ فَيُمْضِيَ وقته بالصلاة تارة، وبقراءة القرآن تارة، وبالتسبيح تارة، وبالتهليل تارة، وبالتحميد تارة، وبالتكبير تارة، وبالدعاء تارة، وبالاستغفار تارة، وبالصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- تارة، وبـ"لا حول ولا قوة إلا بالله تارة"، وبالتدبُّر تارة، وبالتفكُّر تارة، ونحو ذلك من الطاعات المحضة، ويجتنب ما لا يعينه من الأقوال والفعال، ولا يُكثر الكلام؛ لأن من كثر كلامه كثر سقطه، وفي الحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (8) ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف ففيه أولى ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك(9).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنه جواد كريم، وأستغفر الله لي ولكم.
أيها الناس: يشرع الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الجماعة، ومن تخلل اعتكافه جمعة استحب له أن يعتكف في مسجد جُمعةٍ، فإن اعتكف في مسجد جماعة خرج إلى الجمعة ثم رجع إلى معتكفه. واحرص أخي المعتكف على أن يكون اعتكافك في مسجدٍ بعيدٍ عن كثرة الناس وعن الإزعاج، واختر أحد المساجد التي لا تعرف فيها أحدًا، و لا يعرفك فيها أحد، فإن هذا أحرى للإخلاص وَأَفْرَغُ لقلبك وذهنك من محادثة الناس وكثرة مجالستهم ومخالطتهم، وإن كنت ممن يعتكف في الحرمين الشريفين فتجنب التضييق على إخوانك المصلين، وافسح لهم المجال لأداء الصلوات، ولا تكن ممن يرغب أن يُظهر للمصلين اعتكافه حتى يسلموا عليه أو يفسحوا له! وبعض المعتكفين لا يصلي أحيانًا التراويح أو القيام مع المصلين ويشوش عليهم برفع الصوت في أحاديث لا طائل من ورائها.
والاعتكاف مسنون في أي وقت، فللمسلم أن يبتدئ الاعتكاف متى شاء وينهيه متى شاء، إلا أن الأفضل أن يعتكف في رمضان خاصة العشر الأواخر منه، فإذا صلى فجر يوم الحادي والعشرين من رمضان دخل المعتكف ويمكث في المسجد حتى خروجه إلى صلاة العيد، وهذا وقت انتهائه المستحب.
أيها المعتكف: احرص على الذكر والقراءة والصلاة والعبادة، وتجنب ما لا يعينك من حديث الدنيا، ولا بأس أن تتحدث بحديث مباح مع أهلك أو غيرهم لمصلحة، لحديث صفية أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفًا فأتيتُه أزوره ليلاً فحدثته، ثم قمت لأنقلب- أي لأنصرف إلى بيتي- فقام النبي معي(10).
ومما يباح لك- أخي المعتكف- أن تخرج من المسجد لحاجاتك الضرورية كقضاء الحاجة من بولٍ أو غائط، أو للإتيان بطعام وشراب إن لم يكن هناك من يحضره لك، ومثله التداوي إن أصابك المرض وأنت معتكف، وكذلك إسعاف مريض من أهلك تجب عليك رعايته ولا تجد من يتولى أمره غيرك.
ومع كل ذلك فإن هناك أمورًا تقطع عليك اعتكافك وتبطله ومن هذه الأمور: الخروج لأمرٍ ينافي الاعتكاف، كالخروج للبيع والشراء، وجماع أهله، ومباشرتهم، ونحو ذلك.
إن كان معك رفقة، فاختر الرفقة التي تعينك على الطاعة وتشد أزرك وتحرص على الخير واستغلال الأوقات وعمارتها بالعبادة، وتجنب الذين تضيع أوقاتهم في حديث وكلام. وبعض المعتكفين إذا كانوا جماعة يظهر عليهم الجد في أول الأيام، ثم يتراخون ويتكاسلون، وتراهم كثيرًا ما تضيع أوقاتهم في أحاديث لا فائدة من ورائها، وقد ينجرُّ الحديث إلى أمور محرمة من غيبة، أو غيرها.
أخي المسلم: الاعتكاف سنة، والمحافظة على بيتك وأبنائك من الواجبات، فاحذر أن تضيع الأهم وتفرط في أمر الرعاية، بل اجمع بين الأمرين، واحرص على ابتعادهم عن مواطن الفتن، ولا يكن اعتكافك فيه ضياع لحقوق واجبة. وإن تيسر أن يصحبك أبناؤك في الاعتكاف؛ فإن في ذلك طريق تربية، وراحة نفسية لك، وأُلفة بينكم، وتعويد لهم على العبادة؛ وإن صعب الأمر عليهم فلا أقل من ليلة يعتكفون فيها معك، وأجزل لهم العطية وشجعهم على ذلك(11).
وبالجملة- عباد الله- ليحرص المعتكف على تطبيق السنَّة، والحرص على كل قربة، والبعد عن كل ما يفسد اعتكافه، أو ينقص ثوابه.
اللهم أعنا على صيام رمضان وقيامه، اللهم وفقنا لصيامه وقيامه إيمانًا واحتسابًا، اللهم إنَّا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك أعداء الدين.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)) (الأحزاب). اللهم صل على سيدنا محمد في الأولين، وصل على سيدنا محمد في الآخرين، وصل على سيدنا محمد في الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.
----------
تعليق