بقلم الدكتور محمد نزار الدقر
عن أم الدرداء رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق الداء والدواء فتداووا ولا تداووا بحرام) رواه أبو داود والطبراني ورجاله ثقات (مجمع الزوائد)
عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام) رواه أبو داود.
عن أم سلمة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) رواه أبو داود والطبراني ورجاله الصحيح (مجمع الزوائد).
وعن وائل بن حجر رضي الله عنه أن طارق بن سويد (سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه ـ أو كره أن يصنعها ـ فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال إنه ليس بدواء ولكنه داء)رواه مسلم.
وفي رواية: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : عندنا أنبذة أنتداوى بها؟ قال: أهي مسكرة؟ قال: نعم، قال: أهي مسكرة؟ قال: نعم: إنها داء وليست بدواء) رواه مسلم والبيهقي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل دواء خبيث كالسم ونحوه)وفي رواية (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث)رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح.
قال الرازي: (ومن معاني جعل، حكم، أي شرع كما في قوله تعالى: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وسيلة ولا حام)، فمعنى لم يجعل شفاء أمتي، أي لم يشرع اسشفاء أمته فيما حرم الله).
قال ابن الأثير: إنما سمى الخمر داء في شربها من الإثم. وقد يستعمل لفظ الداء في الآفات والعيوب ومساوئ الأخلاق، ألا تراه سمى البخل داء؟
قال ابن الأثير: (والدواء الخبيث يكون من جهتين: إحداهما النجاسة وهو الحرام كالخمر ونحوها، ولحوم الحيوان المحرمة وأرواثها وأبوالها، وكلها نجسة وتناولها إلا ما خصصته السنة من أبوال الإبل، والجهة الأخرى من جهة الطعم والمذاق. ولا ينكر أن يكون مكره ذلك لما فيه من المشقة على الطباع وكراهية النفوس لها).
قال ابن القيم: (وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه، وتحريمه حمية له وصيانة عن تناوله فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل، فإن إن أثر في إزالتها لكنه يعقب سقماً أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه.. وأيضاً، فإن في إباحة التداوي به، ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تداوله للشهوة واللذة ولا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها مزيل لأسقامها والشارع سد الذريعة إلى تناوله بكل ممكن ...).
والحقيقة التي لا يشك فيها منصف أن الله سبحانه وتعالى لم يحرم شيئاً على هذه الأمة إلا وقد أثبت الطب ضرره البالغ على الجسم يفوق ماله من فائدة، إن وجدت له مثل هذه الفوائد. وإذا كان المحرك خاصية دوائية معينة قد تفيد في إصلاح بعض العلل، إلا أنه يملك إلى جانب ذلك آثار ضارة تهدد كيان وصحة هذا البدن تفوق المنفعة المرتقبة من تناوله.
فالدواء المحمود هو الذي يفيد في العلة وتكون أعراضه الجانبية قليلة أو معدومة. أما الدواء الذي تكون أثاره الجانبية شديدة، أو أن طول استعماله يؤدي إلى أذى بليغ فهو الدواء الخبيث ومنه الخمر الذي أبطل الطب الحديث تداوله في التداوي في منتصف هذا القرن وألغي نهائياً من مفردات الطب.
وتفيد الأحاديث التي أوردناها تحريم التداوي بالمحرمات في شرعنا الحنيف. وإن نهى الرسول صلى الله عليه وسلم القاطع بذلك أدى إلى اتفاق، بل وإجماع الأمة المجتهدين على ذلك. إلا أن هناك حالات قد لا يجد الطبيب أمامه إلا (دواء محرماً) يمكن أن ينقذ مريضه من محنته المرضية فما هو حكم الشرع في ذلك؟
قال تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه).
وقال تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير .. إلى قوله: فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم).
وقال تعالى: (إنما حرم عليكم المتية والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم)
تدل هذه الآيات الكريمة على أن المشرع الحكيم قد استثنى حالات الضرورة من التحريم وأطلقها من غير قيد ولا شرط ولا صفة، فاقتضى وجود الإباحة الضرورة سواء كان ذلك للتغذي في حالة المخمصة أو للتداوي في حالة المرض. ويعرف علماؤنا الضرورة بأنها الحالة المحدقة بالإنسان في ظروف سيئة تحمله على ارتكاب المحرم من أجل المحافظة على نفسه من الهلاك أو لدفع أذى لا يتحمله، إما يقيناً أو ظناً. وعلى هذا فإن المريض إذا خاف على نفسه، أو الطبيب المسلم على مريضه، من الهلاك أو تلف عضو، أو بلغ به من الألم حداً لا يحتمل، ولم يجد دواء مباحاً ينقذه من علته، جاز له أن يستعمل، أو أن يصف الدواء المحرم إذا غلب على ظن الطبيب الحاذق فائدته.
ولقد اتفق أئمة المذهب الحنفي والشافعي على إباحة التداوي بالمحرمات عند الضرورة، عدا المسكرات، وتلكم الأدلة:
1ـ لقد أجاز الله سبحانه وتعالى للمحرم بالحج أن يحلق رأسه إذا اضطر إلى ذلك لأذى في رأسه مع أن الحلق من محرمات الأحرام. قال تعالى: (فمن كان به أذى من رأسه ففدية ...) (البقرة: الآية)
2ـ رخص النبي صلى الله عليه وسلم لصحابيين جليلين في لبس الحرير وهو محرم على الرجال لحكة كانت بهما. عن أنس بن مالك (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في لبس الحرير لحكة كانت بهما)رواه البخاري ومسلم.
3ـ رخص النبي صلى الله عليه وسلم في استعمال الذهب في التداوي حالة لضرورة كستر عيب أو إزالة تشوه. عن عرفجة بن أسعد (أصيب أنفي يوم الكلاب في الجاهلية فاتخذت أنفاً من ورق فأنتن علي فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتخذ أنفاً من ذهب)رواه الترمذي وحسنه.
4ـ رخص النبي صلى الله عليه وسلم لرهط عرينة التداوي بأبوال الإبل (راجع البحث في مكان آخر من الكتاب).
ولقد ذهب المالكية والحنابلة إلى منع التداوي بالمحرمات لعموم الحديث (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) وبقطع النظر عن خصوص السبب، لورود الحديث في معرض حادثة السؤال عن التداوي بالمسكر، كما علله الحنفية والشافعية.
ولقد اتفق الجمهور على تحريم التداوي بالمسكرات سواء كان ذلك بضرورة أن لا ، غير أن الحنفية استثنوا حالة الضرورة وتعين الشفاء بالمسكر وحده، وذلك استناداً إلى عموم الآية (فمن اضطر غير باغ ولا عاد).
ولقد أشار النووي إلى أن المعتمد عند الشافعية تحريم التداوي بالخمر (أي تجرعه وشربه للتداوي) أما تطبيقه على الجلد كعلاج خارجي عند الضرورة فقد أجازه النووي في فتاويه المسماة بالمسائل المنثورة.
وقيد بعض الشافعية حرمة التداوي بالخمر إذا كانت صرفة وغير ممزوجة بشيء آخر تستهلك فيه. فإذا استهلكت فيه جاز التداوي بشرط إخبار طبيب مسلم عدل وبشرط أن يكون المستعمل قليلاً لا يسكر[1] أو بحيث لم يبق فيه طعم ولا لون ولا ريح[2] .
وكلمة (استهلاك المسكر في الدواء) تعني تغير تركيبه بتفاعله مع الأدوية الأخرى المشاركة في تكوين الدواء. أو باستهلاك الـتأثير المسكر بغلبة تأثير المواد الأخرى بحيث لا يمكن السكر بذلك الدواء. وعلى هذا يشترط لشرب الأدوية المهيأة بالغول أو الخمر ثلاثة شروط:
1ـ أن يضطر المريض إلى ذلك الدواء لفقدان دواء مباح آخر يعادل بفائدته الدواء المحضر بالغول (AL cohol).
2ـ أن لا تؤدي الجرعة الدوائية لعوارض السكر الأولي.
3ـ أن يكون السكر بالمقدار الكبير غير ممكن أيضاً لأن زيادة مقدار الجرعة الدوائية إلى ذلك الحد تؤدي إلى حصول الضرر بالعقارات الأخرى المشاركة قبل حصول السكر به، أي أن تأثير الأدوية المشاركة يغلب تأثير الخمر أو الغول فأصبحت الخمر بذلك مستهلكة في ذلك الدواء.
وعلى هذا لا يجوز مطلقاً عند الشافعية التداوي بالخمر صرفاً أو بما يسمى بالخمور الدوائية.
أما الأدوية التي يدخل الغول في تركيبها لإصلاح الدواء أو منعه من الفساد أو لتسهيل إذابته أو من أجل استخلاص الخلاصة الدوائية من النبات فجائز ضمن الشروط السابقة، وأن يتحقق من ذلك طبيب مسلم عدل.
ومن أمثلة الضرورة على التداوي بالمحرمات، استعمال المخدرات في العمليات الجراحية أو لتسكين الآلام غير المحتملة، واستعمال الذهب في طبابة الأسنان وغيرها للعلاج دون التجميل، واستعمال بعض الهرمونات المستخلصة من أعضاء الخنزير إذا لم يكن لها نظير مستخلص من أعضاء البقر أو غيره من الحيوانات المباحة، وإسعاف النازفين بنقل الدم والاستفادة من أعضاء الموتى في عمليات الزرع إلى غير ذلك.
التدرج في ترك المسكرات لدى توبة المدمن:
يعرف الدكتور فيصل الصباغ، المدمن على الخمر بأنه الشخص الذي لا يمكنه الاستغناء عن تناوله والذي يستحيل عليه القيام بعمل اليوم والغد دون أن يشرب. بينما الشارب المعتدل فهو الذي يمكنه أن يحدد ما يستهلكه من الشراب، والذي لا يشرب بصورة منتظمة والذي لا يعتمد على المشروب للهرب من واقع مؤلم أو لتغطية قلق مزعج.
والمقرر بدون خلاف شرعاً، أو توبة غير المدمن تكون بترك المسكرات فوراً وبشكل كامل أما المدمن عليها، والذي سلبت إرادته تحت وطأة الاعتياد عليها، فإن الدكتور النسيمي يرى أن توبته مع التدرج بترك المسكر مقبولة شرعاً، إذا نوى الترك وعزم عليه وأخذ يتدرج بتنقيص المقدار الذي يتناوله، وبإطالة الفترة بين تعاطي مشروبين لأن الترك القطعي دون تدرج، ودون إشراف طبي إلى هذيان ارتعاشي عند المدمن وإلى حالة تشبه الجنون. ويستدل على ذلك بأن الإسلام كان قد تدرج في التحريم على الأمة فحرم على المسلم أن يقرب الصلاة سكراناً فأخذ الناس يقللون من شرب الخمور حتى لا تفوتهم صلاة مكتوبة، وهكذا إلى أن تخلص المسرفون من إدمانهم وأصبح بالإمكان تحريم الخمر مطلقاً.
مراجع البحث
1ـ ابن الأثير الجزري وكتابه: (جامع الأصول في أحاديث الرسول)
2ـ الهيثمي وكتابه: (مجمع الزوائد).
3ـ عبد الرحمن الجزيري في كتابه: (الفقه على المذاهب الأربعة).
4ـ الإمام الرازي في كتابه: (تفسير الإمام الرازي)
5ـ وهبة الزحيلي في كتابه: (نظرية الضرورة الشرعية).
6ـ ابن قيم الجوزية في كتابه: (الطب النبوي).
7ـ د. محمود ناظم النسيمي في كتابه: (الطب النبوي والعلم الحديث).
8ـ د. فيصل الصباغ عن كتابه: محاضرات في أمراض التغذية والتسممات.
عن أم الدرداء رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق الداء والدواء فتداووا ولا تداووا بحرام) رواه أبو داود والطبراني ورجاله ثقات (مجمع الزوائد)
عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام) رواه أبو داود.
عن أم سلمة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) رواه أبو داود والطبراني ورجاله الصحيح (مجمع الزوائد).
وعن وائل بن حجر رضي الله عنه أن طارق بن سويد (سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه ـ أو كره أن يصنعها ـ فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال إنه ليس بدواء ولكنه داء)رواه مسلم.
وفي رواية: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : عندنا أنبذة أنتداوى بها؟ قال: أهي مسكرة؟ قال: نعم، قال: أهي مسكرة؟ قال: نعم: إنها داء وليست بدواء) رواه مسلم والبيهقي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل دواء خبيث كالسم ونحوه)وفي رواية (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث)رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح.
قال الرازي: (ومن معاني جعل، حكم، أي شرع كما في قوله تعالى: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وسيلة ولا حام)، فمعنى لم يجعل شفاء أمتي، أي لم يشرع اسشفاء أمته فيما حرم الله).
قال ابن الأثير: إنما سمى الخمر داء في شربها من الإثم. وقد يستعمل لفظ الداء في الآفات والعيوب ومساوئ الأخلاق، ألا تراه سمى البخل داء؟
قال ابن الأثير: (والدواء الخبيث يكون من جهتين: إحداهما النجاسة وهو الحرام كالخمر ونحوها، ولحوم الحيوان المحرمة وأرواثها وأبوالها، وكلها نجسة وتناولها إلا ما خصصته السنة من أبوال الإبل، والجهة الأخرى من جهة الطعم والمذاق. ولا ينكر أن يكون مكره ذلك لما فيه من المشقة على الطباع وكراهية النفوس لها).
قال ابن القيم: (وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه، وتحريمه حمية له وصيانة عن تناوله فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل، فإن إن أثر في إزالتها لكنه يعقب سقماً أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه.. وأيضاً، فإن في إباحة التداوي به، ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تداوله للشهوة واللذة ولا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها مزيل لأسقامها والشارع سد الذريعة إلى تناوله بكل ممكن ...).
والحقيقة التي لا يشك فيها منصف أن الله سبحانه وتعالى لم يحرم شيئاً على هذه الأمة إلا وقد أثبت الطب ضرره البالغ على الجسم يفوق ماله من فائدة، إن وجدت له مثل هذه الفوائد. وإذا كان المحرك خاصية دوائية معينة قد تفيد في إصلاح بعض العلل، إلا أنه يملك إلى جانب ذلك آثار ضارة تهدد كيان وصحة هذا البدن تفوق المنفعة المرتقبة من تناوله.
فالدواء المحمود هو الذي يفيد في العلة وتكون أعراضه الجانبية قليلة أو معدومة. أما الدواء الذي تكون أثاره الجانبية شديدة، أو أن طول استعماله يؤدي إلى أذى بليغ فهو الدواء الخبيث ومنه الخمر الذي أبطل الطب الحديث تداوله في التداوي في منتصف هذا القرن وألغي نهائياً من مفردات الطب.
وتفيد الأحاديث التي أوردناها تحريم التداوي بالمحرمات في شرعنا الحنيف. وإن نهى الرسول صلى الله عليه وسلم القاطع بذلك أدى إلى اتفاق، بل وإجماع الأمة المجتهدين على ذلك. إلا أن هناك حالات قد لا يجد الطبيب أمامه إلا (دواء محرماً) يمكن أن ينقذ مريضه من محنته المرضية فما هو حكم الشرع في ذلك؟
قال تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه).
وقال تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير .. إلى قوله: فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم).
وقال تعالى: (إنما حرم عليكم المتية والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم)
تدل هذه الآيات الكريمة على أن المشرع الحكيم قد استثنى حالات الضرورة من التحريم وأطلقها من غير قيد ولا شرط ولا صفة، فاقتضى وجود الإباحة الضرورة سواء كان ذلك للتغذي في حالة المخمصة أو للتداوي في حالة المرض. ويعرف علماؤنا الضرورة بأنها الحالة المحدقة بالإنسان في ظروف سيئة تحمله على ارتكاب المحرم من أجل المحافظة على نفسه من الهلاك أو لدفع أذى لا يتحمله، إما يقيناً أو ظناً. وعلى هذا فإن المريض إذا خاف على نفسه، أو الطبيب المسلم على مريضه، من الهلاك أو تلف عضو، أو بلغ به من الألم حداً لا يحتمل، ولم يجد دواء مباحاً ينقذه من علته، جاز له أن يستعمل، أو أن يصف الدواء المحرم إذا غلب على ظن الطبيب الحاذق فائدته.
ولقد اتفق أئمة المذهب الحنفي والشافعي على إباحة التداوي بالمحرمات عند الضرورة، عدا المسكرات، وتلكم الأدلة:
1ـ لقد أجاز الله سبحانه وتعالى للمحرم بالحج أن يحلق رأسه إذا اضطر إلى ذلك لأذى في رأسه مع أن الحلق من محرمات الأحرام. قال تعالى: (فمن كان به أذى من رأسه ففدية ...) (البقرة: الآية)
2ـ رخص النبي صلى الله عليه وسلم لصحابيين جليلين في لبس الحرير وهو محرم على الرجال لحكة كانت بهما. عن أنس بن مالك (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في لبس الحرير لحكة كانت بهما)رواه البخاري ومسلم.
3ـ رخص النبي صلى الله عليه وسلم في استعمال الذهب في التداوي حالة لضرورة كستر عيب أو إزالة تشوه. عن عرفجة بن أسعد (أصيب أنفي يوم الكلاب في الجاهلية فاتخذت أنفاً من ورق فأنتن علي فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتخذ أنفاً من ذهب)رواه الترمذي وحسنه.
4ـ رخص النبي صلى الله عليه وسلم لرهط عرينة التداوي بأبوال الإبل (راجع البحث في مكان آخر من الكتاب).
ولقد ذهب المالكية والحنابلة إلى منع التداوي بالمحرمات لعموم الحديث (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) وبقطع النظر عن خصوص السبب، لورود الحديث في معرض حادثة السؤال عن التداوي بالمسكر، كما علله الحنفية والشافعية.
ولقد اتفق الجمهور على تحريم التداوي بالمسكرات سواء كان ذلك بضرورة أن لا ، غير أن الحنفية استثنوا حالة الضرورة وتعين الشفاء بالمسكر وحده، وذلك استناداً إلى عموم الآية (فمن اضطر غير باغ ولا عاد).
ولقد أشار النووي إلى أن المعتمد عند الشافعية تحريم التداوي بالخمر (أي تجرعه وشربه للتداوي) أما تطبيقه على الجلد كعلاج خارجي عند الضرورة فقد أجازه النووي في فتاويه المسماة بالمسائل المنثورة.
وقيد بعض الشافعية حرمة التداوي بالخمر إذا كانت صرفة وغير ممزوجة بشيء آخر تستهلك فيه. فإذا استهلكت فيه جاز التداوي بشرط إخبار طبيب مسلم عدل وبشرط أن يكون المستعمل قليلاً لا يسكر[1] أو بحيث لم يبق فيه طعم ولا لون ولا ريح[2] .
وكلمة (استهلاك المسكر في الدواء) تعني تغير تركيبه بتفاعله مع الأدوية الأخرى المشاركة في تكوين الدواء. أو باستهلاك الـتأثير المسكر بغلبة تأثير المواد الأخرى بحيث لا يمكن السكر بذلك الدواء. وعلى هذا يشترط لشرب الأدوية المهيأة بالغول أو الخمر ثلاثة شروط:
1ـ أن يضطر المريض إلى ذلك الدواء لفقدان دواء مباح آخر يعادل بفائدته الدواء المحضر بالغول (AL cohol).
2ـ أن لا تؤدي الجرعة الدوائية لعوارض السكر الأولي.
3ـ أن يكون السكر بالمقدار الكبير غير ممكن أيضاً لأن زيادة مقدار الجرعة الدوائية إلى ذلك الحد تؤدي إلى حصول الضرر بالعقارات الأخرى المشاركة قبل حصول السكر به، أي أن تأثير الأدوية المشاركة يغلب تأثير الخمر أو الغول فأصبحت الخمر بذلك مستهلكة في ذلك الدواء.
وعلى هذا لا يجوز مطلقاً عند الشافعية التداوي بالخمر صرفاً أو بما يسمى بالخمور الدوائية.
أما الأدوية التي يدخل الغول في تركيبها لإصلاح الدواء أو منعه من الفساد أو لتسهيل إذابته أو من أجل استخلاص الخلاصة الدوائية من النبات فجائز ضمن الشروط السابقة، وأن يتحقق من ذلك طبيب مسلم عدل.
ومن أمثلة الضرورة على التداوي بالمحرمات، استعمال المخدرات في العمليات الجراحية أو لتسكين الآلام غير المحتملة، واستعمال الذهب في طبابة الأسنان وغيرها للعلاج دون التجميل، واستعمال بعض الهرمونات المستخلصة من أعضاء الخنزير إذا لم يكن لها نظير مستخلص من أعضاء البقر أو غيره من الحيوانات المباحة، وإسعاف النازفين بنقل الدم والاستفادة من أعضاء الموتى في عمليات الزرع إلى غير ذلك.
التدرج في ترك المسكرات لدى توبة المدمن:
يعرف الدكتور فيصل الصباغ، المدمن على الخمر بأنه الشخص الذي لا يمكنه الاستغناء عن تناوله والذي يستحيل عليه القيام بعمل اليوم والغد دون أن يشرب. بينما الشارب المعتدل فهو الذي يمكنه أن يحدد ما يستهلكه من الشراب، والذي لا يشرب بصورة منتظمة والذي لا يعتمد على المشروب للهرب من واقع مؤلم أو لتغطية قلق مزعج.
والمقرر بدون خلاف شرعاً، أو توبة غير المدمن تكون بترك المسكرات فوراً وبشكل كامل أما المدمن عليها، والذي سلبت إرادته تحت وطأة الاعتياد عليها، فإن الدكتور النسيمي يرى أن توبته مع التدرج بترك المسكر مقبولة شرعاً، إذا نوى الترك وعزم عليه وأخذ يتدرج بتنقيص المقدار الذي يتناوله، وبإطالة الفترة بين تعاطي مشروبين لأن الترك القطعي دون تدرج، ودون إشراف طبي إلى هذيان ارتعاشي عند المدمن وإلى حالة تشبه الجنون. ويستدل على ذلك بأن الإسلام كان قد تدرج في التحريم على الأمة فحرم على المسلم أن يقرب الصلاة سكراناً فأخذ الناس يقللون من شرب الخمور حتى لا تفوتهم صلاة مكتوبة، وهكذا إلى أن تخلص المسرفون من إدمانهم وأصبح بالإمكان تحريم الخمر مطلقاً.
مراجع البحث
1ـ ابن الأثير الجزري وكتابه: (جامع الأصول في أحاديث الرسول)
2ـ الهيثمي وكتابه: (مجمع الزوائد).
3ـ عبد الرحمن الجزيري في كتابه: (الفقه على المذاهب الأربعة).
4ـ الإمام الرازي في كتابه: (تفسير الإمام الرازي)
5ـ وهبة الزحيلي في كتابه: (نظرية الضرورة الشرعية).
6ـ ابن قيم الجوزية في كتابه: (الطب النبوي).
7ـ د. محمود ناظم النسيمي في كتابه: (الطب النبوي والعلم الحديث).
8ـ د. فيصل الصباغ عن كتابه: محاضرات في أمراض التغذية والتسممات.