أصبح الجدل المستمر في المدارس الاجتماعية والفلسفية الغربية المعاصرة بخصوص الدين والحداثة والعلمانية، واحداً من أبرز المواضيع التي يناقشها اليوم كبار المفكرين وعلماء السياسة والاجتماع المعاصرين.
نظرا لطبيعة العلاقة الدائمة والملتبسة بين الدين والسياسة في الدولة الحديثة؛ فإن الأسئلة التي تطرحها عودة الدين، للنقاش السياسي، والانشغال المتزايد للرأي العام بقضايا الانتماء الديني وحقوقه السياسية، دفعت بعالم الاجتماع السياسي وفيلسوف العلمانية الفرنسي جون بيبيرو، للقول: «إن ضبط مفهوم الدين هو من شأن السلطة ويجب أن يستبطنه كل لاعب ليتم القبول به، وإن تخصيص الدين بواسطة لائكيته لا تعني بتاتا زوال التعبيرات الدينية من الفضاء العام».
وإذا كان مرسيل غوشي، وزميله فيليب بيرو، يقتربان في أطروحتهما فيما يخص صعوبة تجاوز الدين للحداثة والعلمنة؛ فإن عالم اجتماع التربية الفرنسي روجيه مونجو، يرد على هذه الأطروحة في مقالته الشهيرة التي نشرها سنة 2012 بعنوان «اللائكية والمجتمع ما بعد العلماني» مؤكدا، أن العلمنة تعيش في مأزق تاريخي. ويقترح الاستناد إلى المقترب العلمي الجديد الذي تبناه المفكر الألماني الشهير يورغن هابرماس، ونحته لمصطلح «المجتمع ما بعد علماني»، لتجاوز هذا المأزق. كما أن مونجو يضيف ردا على الفيلسوف جون بيبيرو، أن التأثيرات التي صنعتها العلمانية، وقدرتها على إزاحة الدين، أو ضبطه بطرق سلطوية قانونية، تحولت مع الوقت في ظل السيرورة الاجتماعية «لعودة الديني»، وليس انمحائه في الفضاء العام.
في هذا السياق يدافع عالم الاجتماع ستافو ديبوج، في كتابه الصادر سنة 2013 «الذئب في المرعى. الأصولية المسيحية تغزو المجال العام»، عن وجهة نظر جدلية، حول المدرسة الخلقية الأميركية، ومناقشتها لعودة الدين للسياسة في أميركا، داعيا إلى رفض أطروحات من يسميهم بمنارات ما بعد العلمانية من أمثال، المسيحيين الإنجيليين، نيكولاس والترستورف، وكريستوف أبريل، وستيفين كارتر؛ إضافة إلى هابرماس، وتشارلز تايلور، وجان مارك فيري. في كتابه هذا، يهاجم ديبوج أطروحة هابرماس، ويتهمها بشكل لا يستند إلى أدلة مقنعة، بكونها هي التي سمحت للدين بالعودة للمجال العام، مشيرا لما يشكله ذلك - حسب رأيه - من خطر يجب التعامل معه. وعليه يقترح ستافو ديبوج، في كتابه المشار إليه أعلاه خطوتين مركزيتين، الأولى: «ألا نهاجم بتهور كبير علمانية المجال العام السياسي، حتى ولو لم نرفض الفروق بين الإيمان والمعرفة؛ وبين العقول الدينية والعقل العام، وبين الأخلاق الدينية والقوانين الوضعية» (ص10). أما الثانية فتتعلق، بما يعتبره المنزلق الخطير الذي تطرحه مقاربة، حرية الدين في الفضاء العام؛ وعليه يتبنى ديبوج طرحا تسلطيا قريبا جدا من المذهبية الفلسفية العلمانية الفرنسية.
بل إنه يحاجج بشكل آيديولوجي، نظرية الفضاء العام، وما بعد العلمانية، ويعتبر هذه الأخيرة «تقوم على الرغبة في رفع جميع القيود عن التعبير على المعتقدات الدينية في المجال العام، فإنها - ما بعد العلمانية - مفيدة جدا لنظرية الخلق ولحركات رجعية أخرى مسوقة باسم العقائد الدينية. فهذه أمثلة على ما تقصده ما بعد العلمانية بانفتاح المجال العام بشكل تام على المعتقدات الدينية، التي يقول كثير من الكتاب بشرعيتها الكاملة للتعبير من غير تحفظ، وأن لها الحق في أن تؤسس بنفسها قرارات سياسية ملائمة للجميع، ومؤثرة على كل فرد أي كان».
من جهته يرى عالم الإنتربولوجيا طلال أسد، أستاذ علم الاجتماع في جامعة كولومبيا الأميركية، في كتابه «تشكلات العلمانية في المسيحية والإسلام والحداثة»، أن إشكالية عودة الدين للفضاء العام، رغم ما يثيره من مخاوف ناتجة أساسا عن الطابع الآيديولوجي للفكر الغربي العلماني المتلبس بالأنسنة والعقلنة المتحيزة. فإن ما يهمنا في الحقل الإنتربولوجي، هو كون العلاقة بين البحث في الدين والعلمانية، في حاجة لإعادة الاكتشاف وتجاوز المآزق الكثيرة التي هيمنت على العقل العلماني العلمي؛ والمرتبط بالخصوص بالنظرة الإبيستمولوجية للدين. «فنادرا ما أبدى الإنثروبولوجيون اهتماما بفكرة العلماني، على الرغم من أن دراسة الدين كانت في صلب اهتمامات الحقل منذ القرن التاسع عشر. وتظهر مجموعة من مقررات الدراسة في عدد من الكليات والجامعات حول إنثروبولوجيا الدين المعدة مؤخراً من أجل الجمعية الإنثروبولوجية الأميركية اتكالاً كبيراً على موضوعات مثل الأسطورة والسحر والعرافة واستخدام المهلوسات والطقوس كعلاج نفسي... توحي هذه الموضوعات المألوفة معاً بأن «الدين»، والذي موضوعه المقدس، يقع في نطاق اللاعقلاني. أما العلماني، حيث تقع السياسة والعلم الحديثان، فلا يظهر في هذه التوليفة. كما أنه لم يعالج في أي من النصوص التقديمية المعروفة جيداً. على أنه من شائع المعرفة أن الديني والعلماني مرتبطان بشدة، سواء في فكرنا أو في الطريقة التي ظهرا بها تاريخيّاً. فينبغي لأي علم يسعى إلى فهم الدين أن يفهم أيضا العلماني. وتحتاج الإنثروبولوجيا، وهي العلم الذي سعى إلى فهم غرابة العالم غير الأوروبي إلى أن تدرك كليّاً ما دلالة أن تكون في آن واحد حديثةً وعلمانية».
ومن هنا لا بد من النظر لقضية العلاقة بين الدين والسياسة في الغرب اليوم على أساس اعتبار العلمانية مذهبا سياسيا يستلزم الفصل بين المؤسسات الدينية والحكومية. فالعلمانية كما يراها الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور عميد الفلاسفة المعاصرين في مجال الفلسفة السياسية والأخلاقية «ليست مجرد حل فكري لقضية دوام السلام الاجتماعي والتسامح، بل هي بمثابة قانون يقوّم الوسط السياسي، أي تمثيل المواطنة من خلاله، بالسمو على الممارسات الذاتية التي تهدف إلى التفرقة والتمييز عن طريق الطبقة الاجتماعية، والنوع الاجتماعي، والدين».
ما يجب الانتباه إليه، هو أن طلال أسد يسجل أن حصار العلمانية للدين تاريخيا، لم يؤدِ لزواله، وأنه لم يختفِ إطلاقا في الساحة العامة السياسية، رغم الخفوت الذي أصابه إلى حدود ثمانينات القرن العشرين. أما اليوم فالقضايا الدينية السياسية لم تعد قضايا خاصة بأقلية مؤمنة، ولا هي منحبسة في «الغرف المغلقة»؛ بل إن الحركات الدينية استطاعت أن تكون موضوعا يوميا لدى رجال السياسة والحكم والإعلاميين، ورجال الفكر والمعرفة البحثية. وكل هذا لا يدعونا فقط لمراجعة العلمانية وتصوراتها، ولكن للنظر بشكل متجدد لدور كل من الدين والعلمانية في الحياة الفردية والفضاء العام.
ويبدو أننا اليوم نعيش تراجع ما يطلق عليهم عالم الاجتماع الديني، الأميركي رودني ستار بـ«أنبياء العلمانية». فمع بداية القرن العشرين، كان الرأي العلمي السائد هو مزاعم اقتراب موت الدين.
لكن في الواقع، اليوم، تحولت هذه الأطروحة التي تزعم العلمية، لمجرد أسطورة، رسمت مسارا علميا ملتبسا حول الدين، في جانبه الطقوسي والاعتقادي، ودوره في المجال العام السياسي. لقد كان أول رد تلقته هذه «الأطروحة الأسطورة»، من عالم الاجتماع ديفيد مارتن في بحث له عن الدين والعلمنة سنة 1965؛ وخلص فيه أنه لا يوجد أي دليل علمي يؤكد أن العالم ينتقل من مرحلة دينية نحو مرحلة علمانية، أي ما سماه ديفيد «من مرحلة الدينية في الشؤون الإنسانية إلى مرحلة علمانية».
خلاصة
خلافا للفكر السكوني العربي المجتر لأدبيات القرن التاسع عشر، المتعلقة بالحداثة والعلمنة. نلاحظ أن الفكر السياسي الغربي منذ ثمانينات القرن العشرين، وهو يجري كثيرا من المراجعات والنقد لأطروحات الحداثة حول الدين والعلمانية، بما يتناسب والعودة القوية للدين في الفضاء العام. وإذا كان هذا حال المدارس الغربية المختلفة كما بينا بإيجاز أعلاه؛ فقد أصبح لزاما على الباحثين العرب النظر في قضية عودة الدين، وانتشار حركات الإسلام السياسي على ضوء النقاش الحالي الدائر في الغرب، ضمانا للتعايش في مجتمع متعدد، يعتبر فيه الدين مؤثرا على السياسة ونظام الحكم. كما أن مواكبة هذا النقاش المراجع لعلاقة الدين بالحداثة والعلمانية، تجد مبررها في البيئة العربية التي يخلق فيها، الاتصال بين الدين والسياسة نزاعات دموية ومذهبية بالغة الخطورة والتعقيد. مما يشجع على عودة الدين والحركات الدينية للمجال السياسي، وظهور بعضها بمظهر متشدد
نظرا لطبيعة العلاقة الدائمة والملتبسة بين الدين والسياسة في الدولة الحديثة؛ فإن الأسئلة التي تطرحها عودة الدين، للنقاش السياسي، والانشغال المتزايد للرأي العام بقضايا الانتماء الديني وحقوقه السياسية، دفعت بعالم الاجتماع السياسي وفيلسوف العلمانية الفرنسي جون بيبيرو، للقول: «إن ضبط مفهوم الدين هو من شأن السلطة ويجب أن يستبطنه كل لاعب ليتم القبول به، وإن تخصيص الدين بواسطة لائكيته لا تعني بتاتا زوال التعبيرات الدينية من الفضاء العام».
وإذا كان مرسيل غوشي، وزميله فيليب بيرو، يقتربان في أطروحتهما فيما يخص صعوبة تجاوز الدين للحداثة والعلمنة؛ فإن عالم اجتماع التربية الفرنسي روجيه مونجو، يرد على هذه الأطروحة في مقالته الشهيرة التي نشرها سنة 2012 بعنوان «اللائكية والمجتمع ما بعد العلماني» مؤكدا، أن العلمنة تعيش في مأزق تاريخي. ويقترح الاستناد إلى المقترب العلمي الجديد الذي تبناه المفكر الألماني الشهير يورغن هابرماس، ونحته لمصطلح «المجتمع ما بعد علماني»، لتجاوز هذا المأزق. كما أن مونجو يضيف ردا على الفيلسوف جون بيبيرو، أن التأثيرات التي صنعتها العلمانية، وقدرتها على إزاحة الدين، أو ضبطه بطرق سلطوية قانونية، تحولت مع الوقت في ظل السيرورة الاجتماعية «لعودة الديني»، وليس انمحائه في الفضاء العام.
في هذا السياق يدافع عالم الاجتماع ستافو ديبوج، في كتابه الصادر سنة 2013 «الذئب في المرعى. الأصولية المسيحية تغزو المجال العام»، عن وجهة نظر جدلية، حول المدرسة الخلقية الأميركية، ومناقشتها لعودة الدين للسياسة في أميركا، داعيا إلى رفض أطروحات من يسميهم بمنارات ما بعد العلمانية من أمثال، المسيحيين الإنجيليين، نيكولاس والترستورف، وكريستوف أبريل، وستيفين كارتر؛ إضافة إلى هابرماس، وتشارلز تايلور، وجان مارك فيري. في كتابه هذا، يهاجم ديبوج أطروحة هابرماس، ويتهمها بشكل لا يستند إلى أدلة مقنعة، بكونها هي التي سمحت للدين بالعودة للمجال العام، مشيرا لما يشكله ذلك - حسب رأيه - من خطر يجب التعامل معه. وعليه يقترح ستافو ديبوج، في كتابه المشار إليه أعلاه خطوتين مركزيتين، الأولى: «ألا نهاجم بتهور كبير علمانية المجال العام السياسي، حتى ولو لم نرفض الفروق بين الإيمان والمعرفة؛ وبين العقول الدينية والعقل العام، وبين الأخلاق الدينية والقوانين الوضعية» (ص10). أما الثانية فتتعلق، بما يعتبره المنزلق الخطير الذي تطرحه مقاربة، حرية الدين في الفضاء العام؛ وعليه يتبنى ديبوج طرحا تسلطيا قريبا جدا من المذهبية الفلسفية العلمانية الفرنسية.
بل إنه يحاجج بشكل آيديولوجي، نظرية الفضاء العام، وما بعد العلمانية، ويعتبر هذه الأخيرة «تقوم على الرغبة في رفع جميع القيود عن التعبير على المعتقدات الدينية في المجال العام، فإنها - ما بعد العلمانية - مفيدة جدا لنظرية الخلق ولحركات رجعية أخرى مسوقة باسم العقائد الدينية. فهذه أمثلة على ما تقصده ما بعد العلمانية بانفتاح المجال العام بشكل تام على المعتقدات الدينية، التي يقول كثير من الكتاب بشرعيتها الكاملة للتعبير من غير تحفظ، وأن لها الحق في أن تؤسس بنفسها قرارات سياسية ملائمة للجميع، ومؤثرة على كل فرد أي كان».
من جهته يرى عالم الإنتربولوجيا طلال أسد، أستاذ علم الاجتماع في جامعة كولومبيا الأميركية، في كتابه «تشكلات العلمانية في المسيحية والإسلام والحداثة»، أن إشكالية عودة الدين للفضاء العام، رغم ما يثيره من مخاوف ناتجة أساسا عن الطابع الآيديولوجي للفكر الغربي العلماني المتلبس بالأنسنة والعقلنة المتحيزة. فإن ما يهمنا في الحقل الإنتربولوجي، هو كون العلاقة بين البحث في الدين والعلمانية، في حاجة لإعادة الاكتشاف وتجاوز المآزق الكثيرة التي هيمنت على العقل العلماني العلمي؛ والمرتبط بالخصوص بالنظرة الإبيستمولوجية للدين. «فنادرا ما أبدى الإنثروبولوجيون اهتماما بفكرة العلماني، على الرغم من أن دراسة الدين كانت في صلب اهتمامات الحقل منذ القرن التاسع عشر. وتظهر مجموعة من مقررات الدراسة في عدد من الكليات والجامعات حول إنثروبولوجيا الدين المعدة مؤخراً من أجل الجمعية الإنثروبولوجية الأميركية اتكالاً كبيراً على موضوعات مثل الأسطورة والسحر والعرافة واستخدام المهلوسات والطقوس كعلاج نفسي... توحي هذه الموضوعات المألوفة معاً بأن «الدين»، والذي موضوعه المقدس، يقع في نطاق اللاعقلاني. أما العلماني، حيث تقع السياسة والعلم الحديثان، فلا يظهر في هذه التوليفة. كما أنه لم يعالج في أي من النصوص التقديمية المعروفة جيداً. على أنه من شائع المعرفة أن الديني والعلماني مرتبطان بشدة، سواء في فكرنا أو في الطريقة التي ظهرا بها تاريخيّاً. فينبغي لأي علم يسعى إلى فهم الدين أن يفهم أيضا العلماني. وتحتاج الإنثروبولوجيا، وهي العلم الذي سعى إلى فهم غرابة العالم غير الأوروبي إلى أن تدرك كليّاً ما دلالة أن تكون في آن واحد حديثةً وعلمانية».
ومن هنا لا بد من النظر لقضية العلاقة بين الدين والسياسة في الغرب اليوم على أساس اعتبار العلمانية مذهبا سياسيا يستلزم الفصل بين المؤسسات الدينية والحكومية. فالعلمانية كما يراها الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور عميد الفلاسفة المعاصرين في مجال الفلسفة السياسية والأخلاقية «ليست مجرد حل فكري لقضية دوام السلام الاجتماعي والتسامح، بل هي بمثابة قانون يقوّم الوسط السياسي، أي تمثيل المواطنة من خلاله، بالسمو على الممارسات الذاتية التي تهدف إلى التفرقة والتمييز عن طريق الطبقة الاجتماعية، والنوع الاجتماعي، والدين».
ما يجب الانتباه إليه، هو أن طلال أسد يسجل أن حصار العلمانية للدين تاريخيا، لم يؤدِ لزواله، وأنه لم يختفِ إطلاقا في الساحة العامة السياسية، رغم الخفوت الذي أصابه إلى حدود ثمانينات القرن العشرين. أما اليوم فالقضايا الدينية السياسية لم تعد قضايا خاصة بأقلية مؤمنة، ولا هي منحبسة في «الغرف المغلقة»؛ بل إن الحركات الدينية استطاعت أن تكون موضوعا يوميا لدى رجال السياسة والحكم والإعلاميين، ورجال الفكر والمعرفة البحثية. وكل هذا لا يدعونا فقط لمراجعة العلمانية وتصوراتها، ولكن للنظر بشكل متجدد لدور كل من الدين والعلمانية في الحياة الفردية والفضاء العام.
ويبدو أننا اليوم نعيش تراجع ما يطلق عليهم عالم الاجتماع الديني، الأميركي رودني ستار بـ«أنبياء العلمانية». فمع بداية القرن العشرين، كان الرأي العلمي السائد هو مزاعم اقتراب موت الدين.
لكن في الواقع، اليوم، تحولت هذه الأطروحة التي تزعم العلمية، لمجرد أسطورة، رسمت مسارا علميا ملتبسا حول الدين، في جانبه الطقوسي والاعتقادي، ودوره في المجال العام السياسي. لقد كان أول رد تلقته هذه «الأطروحة الأسطورة»، من عالم الاجتماع ديفيد مارتن في بحث له عن الدين والعلمنة سنة 1965؛ وخلص فيه أنه لا يوجد أي دليل علمي يؤكد أن العالم ينتقل من مرحلة دينية نحو مرحلة علمانية، أي ما سماه ديفيد «من مرحلة الدينية في الشؤون الإنسانية إلى مرحلة علمانية».
خلاصة
خلافا للفكر السكوني العربي المجتر لأدبيات القرن التاسع عشر، المتعلقة بالحداثة والعلمنة. نلاحظ أن الفكر السياسي الغربي منذ ثمانينات القرن العشرين، وهو يجري كثيرا من المراجعات والنقد لأطروحات الحداثة حول الدين والعلمانية، بما يتناسب والعودة القوية للدين في الفضاء العام. وإذا كان هذا حال المدارس الغربية المختلفة كما بينا بإيجاز أعلاه؛ فقد أصبح لزاما على الباحثين العرب النظر في قضية عودة الدين، وانتشار حركات الإسلام السياسي على ضوء النقاش الحالي الدائر في الغرب، ضمانا للتعايش في مجتمع متعدد، يعتبر فيه الدين مؤثرا على السياسة ونظام الحكم. كما أن مواكبة هذا النقاش المراجع لعلاقة الدين بالحداثة والعلمانية، تجد مبررها في البيئة العربية التي يخلق فيها، الاتصال بين الدين والسياسة نزاعات دموية ومذهبية بالغة الخطورة والتعقيد. مما يشجع على عودة الدين والحركات الدينية للمجال السياسي، وظهور بعضها بمظهر متشدد